للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأبو سعيد يصوم الدهر، ولا يصلّي إلّا في الجماعة، ويقيم على مذهب أبي حنيفة، ويلي القضاء سنين، ويتألّه ويتحرّج، وغيره بمعزل عن هذا، ولولا الإبقاء على حرمة العلم، لكان القلم يجري بما هو خاف ويخبر بما هو مجمجم ولكنّ الأخذ بحكم المروءة أولى، والإعراض عما يجلب اللائمة أحرى.

وكان أبو سعيد حسن الخطّ، ولقد أراده الصّيمريّ أبو جعفر على الإنشاء والتحرير فاستعفى وقال: هذا أمر يحتاج فيه إلى دربة وأنا عار منها، وإلى سياسة وأنا غريب فيها:

ومن العناء رياضة الهرم

وحدّثنا النّصري أبو عبد الله- وكان يكتب النوبة للمهلّبيّ- بحديث مفنّد لأبي سعيد هذا موضعه، قال: كنت أخطّ بين يدي الصّيمريّ أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمّد، فالتمسني يوما لأن أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني، وكان أبو سعيد السيرافيّ بحضرته، فظنّ أنّه بفضل علمه أقوم بالجواب من غيره، فتقدّم إليه أن يكتب ويجيب، فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضرب والإصلاح، ثم أخذ يحرّر، والصّيمريّ يقرأ ما يكتبه، فوجده مخالفا لجاري العادة لفظا، مباينا لما يريده ترتيبا.

قال: ودخلت في تلك الحال، فتمثّل الصّيمريّ بقول الشاعر:

يا باري القوس بريا ليس يصلحه ... لا تظلم القوس، أعط القوس باريها

ثم قال لأبي سعيد: خفّف عليك أيّها الشيخ وادفع الكتاب إلى أبي عبد الله تلميذك ليجيب عنه، فخجل من هذا القول، فلمّا ابتدأت الجواب من غير نسخة تحيّر منّي أبو سعيد، ثم قال: أيّها الأستاذ، ليس بمستنكر ما كان منّي، ولا بمستكثر ما كان منك، إنّ مال الفيء لا يصحّ في بيت المال إلّا بين مستخرج «١» وجهبذ، والكتّاب جهابذة الكلام، والعلماء مستخرجوه. فتبسّم الصّيمريّ وأعجبه ما سمع، وقال: على كلّ حال ما أخليتنا من فائدة.

وكان أبو سعيد بعيد القرين، لأنّه كان يقرأ عليه القرآن والفقه والشروط والفرائض والنحو واللغة والعروض والقوافي والحساب والهندسة والحديث والأخبار وهو في كل هذا إمّا في الغاية وإمّا في الوسط.

وأما علي بن عيسى فعالي الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق، وعيب به، إلا أنّه لم يسلك طريق واضع المنطق، بل أفرد صناعة، وأظهر براعة، وقد عمل في القرآن كتابا نفيسا، هذا مع الدّين الثخين، والعقل الرزين.

<<  <   >  >>