العينين، مخضوب الكفين الى الزندين، فلم يستطع الخلوص الى منبره من كثرة الزحام، فأخذه أحد سدنة تلك الناحية في ذراعه حتى القاه على ذروة منبره، فاستوى مبتسما وأشار على الحاضرين مسلما. وقعد بين يديه قراء، فابتدروا القراءة على لسان واحد. فلما أكملوا عشرا من القرآن، قام الخطيب فصدع بخطبة تحرك لها اكثر النفوس من جهة الترجيع لا من جهة التذكير والتخشيع، وبين يديه في درجات المنبر نفر يمسكون أتوار الشمع في ايديهم ويرفعون أصواتهم بيا رب يا رب، عند كل فصل من فصول الخطبة يكررون ذلك، والقراء يبتدرون القراءة في اثناء ذلك، فيسكت الخطيب الى أن يفرغوا ثم يعود لخطبته. وتمادى فيها متصرفا في فنون من التذكير.
وفي أثنائها اعترضه ذكر البيت العتيق، كرّمه الله، فحسر عن ذراعيه مشيرا اليه، وأردفه بذكر زمزم والمقام فأشار اليهما بكلتا اصبعيه ثم ختمها بتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه، ثم دعا للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء له من الأمراء، ثم نزل، وانفضّ ذلك الجمع العظيم، وقد استظرف ذلك الخطيب واستنبل وان لم تبلغ الموعظة من النفوس ما أمل، والتذكرة اذا خرجت من اللسان لم تتعد مسافة الآذان.
ثم ذكر أن المعينين من ذلك الجمع، كالقاضي وسواه، خصوا بطعام حفيل وحلوى على عادتهم في مثل هذا المجتمع. وكانت لأبي الخطيب في تلك الليلة نفقة واسعة في جميع ما ذكر.
ثم كانت ليلة خمس وعشرين، فكان المختتم فيها الإمام الحنفي، وقد أعد ابنا لذلك سنه نحو من سن الخطيب الأول المذكور. فكان احتفال الإمام الحنفي لابنه في هذه الليلة عظيما، أحضر فيها من ثريات الشمع اربعا مختلفات الصنعة:
منها مشجرة مغصنة مثمرة بأنواع الفواكه الرطبة واليابسة، ومنها غير مغصنة.
فصففت أمام حطيمه وتوّج الحطيم بخشب وألواح وضعت أعلاه وجلل ذلك كله سرجا ومشاعيل وشمعا، فاستنار الحطيم كله حتى لاح في الهواء كالتاج العظيم من النور. وأحضر الشمع في أتوار الصفر، ووضع المحراب العودي المشرجب،