هي التي تعم الناس والإبل وهي التي تردها رفها. وفي هذا المنهل الذي للثعلبية شاهدنا من غلبة الناس على الماء أمرا هائلا لا يكاد يشاهد مثله في تغلّب المدن والحصون بالقتال. وحسبك أن مات في ذلك الموضع ضغطا بشدة الزحام وغطا تحت الماء بالأقدام سبعة رجال بادروا لمورد الماء فحصلوا على مورد الفناء، رحمهم الله، وغفر لهم.
وفي ضحوة يوم الجمعة بعده نزلنا بموضع يعرف ببركة المرجوم، وهي مصنع وقد بني له فيما يعلوه من الأرض مصبّ يؤدي الماء اليه على بعد وأحكم ذلك احكاما يدل على قدرة الاتساع وقوة الاستطاع. ولهذا المرجوم المذكور مشهد على قارعة الطريق وقد علا كأنه هضبة شماء، وكل مجتاز عليه لا بد أن يلقي عليه حجرا. ويقال: إن أحد الملوك رجمه لأمر استوجب به ذلك، والله أعلم. وبهذا الموضع بيوت كثيرة للعرب. وبادروا للحين بما لديهم من مرافق الأدم يبيعونها من الحاج. وكان هذا المصنع مملوءا من ماء المطر، فغمر الناس وعمهم، والحمد لله. وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد الى مكة هي آثار زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور زوج هارون الرشيد وابنة عمه؛ انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعمّ وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها الى الآن. ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق، والله كفيل بمجازاتها، والرضا عنها.
وفي ضحوة يوم السبت بعده نزلنا بموضع يعرف بالشّقوق، وفيه مصنعان ألفيناهما مملوءين ماء عذبا صافيا. فأراق الناس مياههم، وجدّدوا مياها طيبة، واستبشروا بكثرة الماء، وجدّدوا شكر الله على ذلك. وأحد هذين المصنعين صهريج عظيم الدائرة كبيرها لا يكاد يقطعه السابح الا عن جهد ومشقة. وكان الماء قد علا فيه أزيد من قامتين. فتنعّم الناس من مائه سباحة، واغتسالا، وتنظيف أثواب، وكان يومهم فيه من أيام راحة السفر.
ومن لطائف صنع الله تعالى بوفده وزوار حرمه أن كانت هذه المصانع كلها