جلساء أخيك فرعون خير من جلسائك؛ حيث قالوا لفرعون عن موسى وأخيه:{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} ، وهؤلاء يأمرون بقتلي إذن والله تقوم عليك الحجة بين يدي الله ملك الجبارين ومذل المستكبرين، فقال له الحجاج: هذب ألفاظك وقصر لسانك فإني أخاف عليك بادرة الأمر، وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم. فقال الغلام: لا حاجة لي بها، بيض الله وجهك وأعلى كعبك؟ فالتفت الحجاج إلى جلسائه وقال: هل علمتم ما أراد بقوله: بيض الله وجهك وأعلى كعبك؟ قالوا: الأمير أعلم. فقال الحجاج: أراد بقوله: بيض الله جهك العمى والبرص، وبقوله أعلى كعبك: التعليق والصلب. ثم التفت إلى الغلام وقال له: ما تقول فيما قلت؟ قال الغلام: قاتلك الله ما أفمهك. فامتزج الحجاج غضبًا وأمر بقتله، وكان الرقاشي حاضرًا فقال: أصلح الله الأمير هبه لي. قال: هو لك لا بارك الله لك فيه. فقال الغلام: والله لا أدري أيكما أحمق من صاحبه ألواهب أجلا قد حضر أم المستوحب أجلا لم يحضر؟ فقال الرقاشي: استنقذتك من القتل وتكافئني بهذا الكلام! فقال الغلام: هنيئا لي الشهادة إن أدركتني السعادة، والله إن القتل في سبيل الله أحب إلي من أن أرجع إلى أهلي صفر اليدين، فأمر له الحجاج بجائزة، وقال يا غلام: قد أمرنا لك بمائة ألف درهم وعفونا عنك؛ لحداثة سنك وصفاء ذهنك وحسن توكلك على الله، وإياك والجرأة على أرباب الأمر فتقع مع من لا يعفو عنك, فقال الغلام: العفو بيد الله لا بيدك، والشكر له لا لك، ولا جمع الله بيني وبينك، ثم هم بالخروج فابتدره الغلمان فقال لهم الحجاج: دعوه فوالله ما رأيت أشجع منه قلبا ولا أفصح منه لسانًا، ولعمري ما وجدت مثله أبدًا، وعسى هو لا يجد مثلي، فإن عاش هذا الغلام ليكونن أعجوبة عصره. "قيل إنه أمر بعض رجاله بأن يدس له السم فقتله"١.
مثل هذه القصص تربي في النفس ملكة الفهم والفطنة وتثري الذهن بجليل الزكانة والحكمة، والتراث الإسلامي العريض فيه مالا يحصى من مثل هذه القصص التي حرم منها الاولاد في العصر الحديث وفيها كما ترى من العظة والتأمل والتدبر ما يرقى بالنفوس ويهذب من الخصال.