للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تكاد تحيد عنهم؛ كأن تبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم يأتي الموضوع، ثم الختام. لكن أثر اليونان كان فيهم ضعيفًا، من هذه الناحية ونواحي الأدب كله؛ لأنهم عكفوا على ترجمة علوم اليونان ولم يترجموا أدبهم، وإذا كان إسحاق بن حنين قد ترجم كتاب (الخطابة) لأرسطو؛ فإن أثره كان ضعيفًا في الخطباء لأنه لم يُشَع بينهم؛ ولأن الفطرة غلبت عليهم؛ ولأن الخطابة لم تكن تعلَّم كما كانت تعلم عند اليونان والرومان، وحتى المؤدبون كانوا يعلمون الشعر والكتابة ولا يعلمون الخطابة، ثم إن نظرة أرسطو إلى الخطابة نظرة متفلسفة، والعرب لم يميلوا إلى فلسفة أدبهم.

على أن العرب لم تكن لهم خطابة قضائية؛ لأنهم كانوا يعتمدون في تقاضيهم على البينة واليمين؛ فلم يكن هناك مجال يتصاول فيه الخطباء، ولم يكن عندهم محلفون يجد الخطيب في استمالتهم وإقناعهم، وكانت خطبهم السياسية -على كثرتها- حزبيةً مذهبيةً أكثرَ منها عامة؛ لأن نظام الحكم لم يكن برلمانيًّا كنظام الأمم الديمقراطية المعاصرة، أو كنظام اليونان في عهد الديمقراطية.

ونلاحظ أن الخطب الحفلية -التكريم، والتأبين، والوفود- قليلة عندهم وموجزة؛ على أن في تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده كثيرًا من الخطباء المصاقع الذين أجادوا الافتنان في الخطب السياسية والوعظية والحربية.

فإذا ما نظرنا إلى الناحية النظرية؛ وجدنا الجاحظ قد تناول كثيرًا من أمور الخطابة في كتابه (البيان والتبيين)؛ إذ تحدث عن مقوماتها وآثارها، وصفات الخطباء ومزاياهم وعيوبهم، وانطلاقهم وحَصْرهم وملابسهم، واعتمادهم على المخاصر والعصي والقسي ... إلخ، وتحدث عن البدء والختام والإيجاز والإسهاب ... إلى غير ذلك من المسائل الموصولة بالخطابة؛ لكن كتاب الجاحظ

<<  <   >  >>