وكان -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت قبل أن يذهب إلى الخلاء، وكان أول ما يبدأ به إذا انصرف من خلوته أن يطوف بالبيت قبل أن يدخل بيته.
إن تحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخلاء تدريب على تخليه عن الناس، واتصاله بالملأ الأعلى، وهو يتلقى وحي الله تعالى، والذي سوف يتكرر كثيرًا ويدوم طويلًا، والخلاء يُعَلِّم الإنسان التجرد عن الماديات والشهوات المتصلة بها، ويشعره بقيمة المعنويات والروحانيات الغائبة عن الحواس.
تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها:((ثم حُبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك)) وجاء تعبير الحديث بلفظ: ((حبب)) المبني للمجهول؛ إشارة إلى أن حب محمد -صلى الله عليه وسلم- للخلاء لم يكن من بواعثه البشرية، وإنما كان من الوحي والإلهام.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يطيل النظر في الكون المحيط به في السماء، ونجومها وقمرها وشمسها وأفلاكها ومجراتها، وصورتها في الليل وفي النهار، ويتأمل الصحراء ساعات لهيبها المحرق، تحت ضوء الشمس الباهرة اللألاء، وساعات صفوها البديع إذ تكسوها أشعة القمر، أو أضواء النجوم، وينظر في أهل مكة والحياة تشغلهم، ويتأمل في الآتين لمكة وهم يطوفون بالبيت والأصنام أمامهم.
كان -صلى الله عليه وسلم- يتأمل في كل ذلك وفي غيره، يلتمس معرفة هذا الوجود وما وراءه من سبب وغاية.
النسك الذي كان يتعبد به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثناء تحنثه:
روى ابن كثير اختلاف العلماء في الشرع الذي كان يتعبد به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقيل: كان -صلى الله عليه وسلم- يتعبد بشرع نوح -عليه السلام، وقيل: كان يتعبد بشرع إبراهيم -عليه السلام، وقيل: كان يتعبد بشرع موسى -عليه السلام، وقيل: كان يتعبد بشرع عيسى -عليه السلام، وقيل: كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه وعمل به.