واطمأن محمد -صلى الله عليه وسلم- لصدق ما رأى وما سمع، وتيقن أن الذي كان يأتيه هو وحي الله، وتأكد أنه فاز بذلك فوزًا عظيمًا، وحتى يستوعب كل ما رأى وتهدأ نفسه فترَ الوحي، وانقطع عنه جبريل -عليه السلام، فمكث -صلى الله عليه وسلم- أيامًا لا يرى جبريل، فحزن حزنًا شديدًا، وأخذ يدور بسببه بين رؤوس الجبال عساه يراه ويحدثه، والمدة التي انقطع فيها الوحي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتفق عليها المؤرخون، وأرجح أقوالهم فيها أربعون يومًا؛ ليشتد شوق الرسول للوحي، وقد كان.
فإن الحال اشتد به -عليه الصلاة والسلام- حتى صار كل ما أتى ذروة جبل بدا له أنه يرمي نفسه منها، حذرًا من قطيعة الله له، بعد أن أراه نعمته الكبرى، وهي اختياره لأن يكون واسطة بينه وبين خلقه، فيتبدى له الملك قائلًا: أنت رسول الله حقًّا، فيطمئن خاطره ويرجع عما عزم إليه، حتى أراد الله أن يظهر للوجود نور الدين، فعاد إليه الوحي.
فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه: وفتر الوحي فترة، حزن فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنا حزنًا عدا منه مرارًا؛ كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقًّا، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه، ويرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.
هذا وإن قصة عزمه -عليه الصلاة والسلام- على أن يرمي نفسه من ذرى الجبال، على الرغم من ورودها في البخاري، إلا أنها ليست على شرط الصحيح؛ لأنها من البلاغات، وهي من قبيل المنقطع، والمنقطع من أنواع الضعيف، والبخاري لا يُخرج إلا الأحاديث المسندة المتصلة برواية العدول الضابطين، ولعل البخاري ذكرها لينبهنا إلى مخالفتها لما صح عنده من حديث بدء الوحي، الذي لم تذكر فيه هذه الزيادة.