كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية؛ لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم.
الرعيل الأول:
وكان من الطبيعي أن يعرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولًا على ألصق الناس به من أهل بيته وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه الخير ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الحق والخير، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجلالة نفسه، وصدق خبره، جمعٌ عُرفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم: زوجة النبي -صلى الله عليه وسلم- أم المؤمنين خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها، ومولاه زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وابن عمه علي بن أبي طالب، وكان صبيًّا يعيش في كفالة الرسول -صلى الله عليه وسلم، وصديقه الحميم أبو بكر الصديق، أسلم هؤلاء في أول يوم من أيام الدعوة.
قال ابن إسحاق: "وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء به، ثم إن جبريل أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين افترضت عليه الصلاة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت له عينٌ من ماء زمزم، فتوضأ جبريل ومحمد -عليهما السلام-، ثم صلى ركعتين وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد أقرّ الله عينه وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله، فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، ثم كان هو وخديجة يصليان سرًّا.
قلت: صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين، فبيَّن له أوقات الصلوات الخمس؛ أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فرضيتها ليلة الإسراء.