للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولم يخرجْ ابنُ جريرٍ (ت: ٣١٠) في استشهادِه بالشِّعرِ عن تلك الضَّوابطِ، فقد أشارَ إلى ضيقِ الشِّعرِ، وما يُفارقُ فيه الكلامَ مِنْ الاضطرارِ، وأنَّ ذلك لا يُخرجُه عن حَدِّ كلامِ العربِ، لكنَّه بذلك دون مرتبةِ الاحتجاجِ، ومِن ذلك قولُه عند قولِه تعالى ﴿وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ [الحِجر: ٢٠]: «وقد قيلَ إنَّ ﴿وَمَنْ﴾ في موضِعِ خَفضٍ عَطفاً به على الكافِ والميمِ في قولِه ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ﴾ [الحِجر: ٢٠]، بمعنى: وجعَلْنا لكم فيها معايشَ ولمَن لستُم له برازِقين. وأحسبُ أنَّ منصوراً (١) في قولِه: هو الوحشُ. قصدَ هذا المعنى، وإيّاه أرادَ. وذلك وإنْ كانَ له وجهٌ في كلامِ العربِ، فبَعيدٌ، قليلٌ؛ لأنَّها لا تكادُ تُظاهرُ على معنىً في حالِ الخفْضِ، ورُبَّما جاءَ في شعرِ بعضِهم في حالِ الضَّرورةِ، كما قالَ بعضُهم (٢):

هلّا سألتَ بذي الجماجمِ عنهمُ … وأبي نُعَيْمٍ ذي اللِّواءِ المُحْرَقِ

فرَدَّ (أبا نُعَيْمٍ) على الهاءِ والميمِ في (عنهم)، وقد بيَّنتُ قُبحَ ذلك في كلامِهم» (٣)، وقولُه: «فعطفَ بظاهرٍ على مَكنيٍّ مخفوضٍ، وذلك غيرُ فصيحٍ مِنْ الكلامِ عند العربِ؛ لأنَّها لا تَنْسُقُ بظاهرٍ على مَكنيٍّ في الخَفضِ إلّا في ضرورةِ شِعرٍ، وذلك لضيقِ الشِّعرِ، وأمّا الكلامُ فلا شيءَ يضْطرُّ المُتكلِّمَ إلى اختيارِ المَكروهِ مِنْ المَنطقِ، والرَّديءِ في


(١) ابنُ المعتمر السُّلميّ، الحافظُ القُدوةُ، مات سنة (١٣٢). ينظر: السّير ٥/ ٤٠٢، وتهذيب التَّهذيب ٤/ ١٥٩.
(٢) أنشدَه الفرّاء (ت: ٢٠٧) في معاني القرآن ٢/ ٨٦.
(٣) جامع البيان ١٤/ ٣٨.

<<  <   >  >>