للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد أشارَ القرآنُ إلى أنواعٍ مِنْ طرقِ الاستدلالِ؛ كما في قولِه تعالى ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأحقاف: ٤]، قالَ ابنُ تيمية (ت: ٧٢٨): «فطالَبَهم أوَّلاً بالطَّريقِ العقليِّ، وثانياً بالطَّريقِ السَّمعيِّ، ونظيرُه قولُه ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر: ٤٠]» (١)، كما أشارَ القرآنُ إلى تنوّعِ الأدلَّةِ بحسبِ الموضوعاتِ المُستَدَلِّ عليها؛ فدليلُ العقلِ في العقليّاتِ، ودليلُ الحِسِّ في الحسِّيَّاتِ، ودليلُ الفطرةِ في المعرفةِ إجمالاً، ودليلُ الشَّرعِ في تفاصيلِ الشرائعِ العلميَّةِ والعمليَّةِ، ودليلُ كُلِّ شيءٍ بحسبِه، ومِنه قولُه تعالى ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: ٩٣]، فدليلُ صدقِ هذه القضيَّةِ ما في التَّوراةِ مِمَّا يُصَدِّقُها. وكذا قولُه ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: ٩٤]، فأمرَه أن يستدلَّ لصدقِ ما عنده بصدقِ ما عندهم. وبهذا تتأَكَّدُ مكانَةُ الاستدلالِ في القرآنِ الكريمِ، وأنَّه الطَّريقُ اللّازمُ للوصولِ إلى المطلوبِ في كلِّ قضيَّةٍ بحسبِها.

وعلى هذا المنهجِ سارَ أنبياءُ الله ورسلُه مع أقوامِهم؛ فأقاموا البيِّناتِ والدلائلَ العقليَّةَ والحسّيَّةَ على صدقِ دعوتِهم، وأَمَدَّهم الله تعالى مِنْ ذلك بما تقومُ به الحُجَّةُ على أقوامِهم، كما في قولِ صالحٍ وشعيبٍ لقومِهما: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ


(١) درء تعارض العقل والنقل ٧/ ٣٩٥.

<<  <   >  >>