للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانَ الناسُ، وهم العربُ ما خلا قُرَيْشاً، تتجاوزُ المزدلفة، وتَقِفُ بعرفات، وتفُيض منها، وكانت الحُمْسُ، وهم قريشٌ، تقفُ عندَ المشعرِ الحَرام، وتفُيض منهُ، ولا تتجاوزُه؛ لأن المزدلفةَ من الحَرَمِ، وتَقولُ: نحن أهلُ حَرَمِ الله، فلا نَخْرُجُ منهُ، فأمر اللهُ نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- أن يُفيض من حيثُ أفاضِ الناسُ، وكانتْ قريش تظنُّ أن يقفَ بالمَشْعَرِ الحَرام على عادتهم، فتجاوَزهُ لأمرِ اللهِ سبحانه.

فإن قلتم: (ثُمَّ) كلمة موضوعة للترتيب في لسانِ العرب، وذَكرَ اللهُ -سبحانه- الإفاضة من حيثُ أفاضَ الناسُ بعدَ الذّكْرِ عندَ المشعرِ الحَرام، والذكْرُ عندَ المَشْعَرِ الحَرامِ لا يكونُ إلا بعدَ الإفاضة.

قلت: هي هُنا لترتيبِ الذّكْرِ، لا لِترتيبِ الحُكْمِ، فلم تخرج (ثم) عن موضوعها (١)؛ لقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: ٦]، ولذلك نظائرُ في القرآنِ واللُّغَةِ يطولُ ذكرُها (٢).


= الضحاك، وهو محجوج بالإجماع. انظر: "تفسير الطبري" (٢/ ٢٩٣)، و"معالم التنزيل" للبغوي (١/ ٢٥٦)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (١/ ١٩٦)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (١/ ١٩٥)، و"أحكام القرآن" للجصاص (١/ ٣٨٧).
(١) وقد ذكر هذا الاعتراض ابن العربي في "أحكام القرآن" (١/ ١٩٦)، وأجاب عنه بأجوبة، منها قوله: أن معناه: ثم ذكرنا لكم: أفيضوا من حيث أفاض الناس، فيرجع التعقيب إلى ذكر وجود الشيء إلى نفس الوجود؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}، المعنى: ثم أخبرناكم: آتينا موسى الكتاب؛ فيكون التعقيب في الإخبار لا في الإيتاء"، انتهى. وانظر: "أحكام القرآن" للجصاص (١/ ٣٨٧)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (١/ ٢/ ٣٩٥).
(٢) انظر أمثلة أخرى في: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: ١٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>