للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}.

والجوابُ عَمّا قاله الأولون (١): أن الأمر بالرهن عند عدم الإشهاد محمولٌ على الندب والإرشاد أيضًا لأصحاب الأموال إلى حفظ أموالهم، فهو كالكتابة (٢)، وأما حصولُ الجُناح إذا لم يُكْتَبْ، فليس على حقيقته، بل قد يُستعمل الجُناح في تركِ قبول الإرشاد (٣)، كما يقول القائل: إن قبلتَ مشورتي فلا جناح عليك، ومفهومه إنْ تركتَ قبولَها فعليك الجُناح.

فإن قلتم: هل (٤) نجد على هذا دليلًا من السُّنَةِ غيرَ هذا؟

قلت: نعم، روي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ابتاعَ فَرَسًا من أعرابيٍّ، فاستتبعَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليقضيَه ثمنَ فرسِه، فأسرعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبطأ الأعرابي، فطفقَ رجالٌ يتعرَّضونَ للأعرابيِّ، فيساومونه بالفَرَسِ، لا يشعرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاعه، فنادى الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن كنتَ مُبتاعًا هذا الفرسَ، وإلا


(١) أي: من قال بأن الكتابة والإشهاد في الدين واجبان.
(٢) قال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" (٢/ ١٠٥): الله تعالى بيَّن حكمَ المداينة، وحضَّ فيها على الكتابة والشهادة عند الكتابة معينًا، وعند الابتياع مطلقًا؛ تحصينًا للحقوق، ونظرًا إلى العواقب ثم قال في الآية الأخرى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، فالمعنى: إذا تعذَّر الكَتْبُ وابتغينا المعاملة، فليأخذ صاحب الدين رهنًا بإزاء دينه وثيقة له، نظرًا إلى العواقب، ثم قال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} فلم يكتب ولم يشهد ولم يرتهن {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}، فبين الله تعالى أن ما تقدم من لفظ الأمر بالكتابة والإشهاد ليس على الحتم والوجوب، وإنما هو للإرشاد والتخصيص.
(٣) وقال ابن العربي: الجناح ها هنا ليس الإثم، إنما هو الضرر الطارئ بترك الإشهاد من التنازع. انظر: "أحكام القرآن" له (١/ ٣٤٢). وانظر: "تفسير الرازي" (٤/ ١/ ١٢٩)، و "أحكام القرآن" للجصاص (٢/ ٢٥٨).
(٤) في "ب": "فهل".

<<  <  ج: ص:  >  >>