إن سألنا منهم سائل فقال: إنك قد قدمت في أول كتابك هذا في وصف البيان: بأن أعلاه درجة وأشرفه مرتبة، أبلغه في الإبانة عن حاجة المبين به عن نفسه، وأبينه عن مراد قائله، كلام الله جل ثناؤه، لفضله على سائر الكلام بارتفاع درجته على أعلى درجات البيان، فما الوجه ـ إذ كان الأمر على ما وصفت ـ في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان، وذلك قوله {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، إذ كان لا شك أن من عرف ملك يوم الدين، فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى. وأن من كان لله مطيعاً، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه متبع، وعن سبيل من غضب عليه وضل منعدل. فما في زيادة الآيات الخمس الباقية من الحكمة التي لم تحوها الآيتان اللتان ذكرنا؟
قيل له: إن الله تعالى ذكره جمع لنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأمته ـ بما أنزل إليه من كتابه ـ معاني لم يجمعهن بكتاب أنزله إلى نبي قبله، ولا لأمة من الأمم قبلهم. وذلك أن كل كتاب أنزله جل ذكره على نبي من أنبيائه قبله، فإنما أنزله ببعض المعاني التي يحوى جميعها كتابه الذي أنزله على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كالتوراة التي هي مواعظ وتفصيل، والزبور الذي هو تحميد وتمجيد، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير ـ لا معجزة في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق. والكتاب الذي أنزل على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحوى معاني ذلك كله، ويزيد عليه كثيراً من المعاني التي سائر الكتب غيره منها خال. وقد قدمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب.
ومن أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله، نظمه العجيب ورصفه الغريب وتأليفه البديع؛ الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء، وكلت عن وصف شكل بعضه البلغاء، وتحيرت في تأليفه الشعراء، وتبلدت كسوراً عن أن تأتى بمثله ـ لديه أفهام الفهماء، فلم يجدوا له إلا التسليم