ومنهم للدعاء والوقار ومنهم للعلم والفتيا وحفظ أساس الملة، فلا يكمل للملك ملك ما لم يجمع هذه الطبقات.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لما مات كسرى بلغ موته النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من استخلفوا بعده؟ قالوا: ابنته بوران. قال: لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة! وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كانت فتنة الحرة من استعمل القوم؟ قالوا: عبيد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظلة الراهب على الأنصار قال: أميران؟ هلك والله القوم! وليس يشترط النسب إلا في الإمامة العظمى دون سائر الولايات. ولما استحضر هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنهما، وكان من الخطباء قال له هشام: بلغني أنك تخطب الخلافة ولا تصلح لها لأنك ابن أمة: قال زيد: فقد كان إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام ابن أمة، وإسحاق صلى الله عليه وسلم ابن حرة، ومحمد صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل. ثم اتهمه في أمر فقال زيد: أنا أحلف لك. قال له هشام: ومن يصدقك؟ قال له زيد: إنه ليس أحد فوق أن يأمر بتقوى الله ولا أحد دون أن يؤمر بتقوى الله تعالى منك.
وقال بعض الخلفاء: دلوني على رجل أستعمله على أمر قد أهمني. قالوا: وكيف تريده؟ قال: إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم. قالوا: ما نعمله إلا الربيع بن زياد الحارثي. قال: صدقتم هو لها! ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه استشار في قوم ليستعملهم فقال له بعض أصحابه: عليك بأهل العدل. قال: ومن هم؟ قال: الذين إذا عدلوا فهو ما رجوت، وإن قصروا قال الناس: اجتهد عمر! ولما قدم يزيد بن بشر بن مروان سأله عن بشر قال: يا أمير المؤمنين هو الشديد في غير عنف اللين في غير ضعف، فقال عبد الملك بن مروان: ذاك الأعمر الأجود الذي كان يأمن عنده البريء ويخاف لديه السقيم، ويعاقب على قدر الذنب ويعرف موضع العفو، الشديد في غير عنف اللين في غير ضعف عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال الحكيم: اعتبروا الرجال بأفعالهم لا بعظم أجسامهم، فإن النسر مع عظمه لا يأكل إلا نتناً، وطير الماء مع ضعفه يتحامى ميت السمك ويأكل الحي منه. وفي حكم الهند: السلطان الحازم ربما أحب الرجل فأقصاه وأطرحه مخافة ضره، كالملسوع يقطع إصبعه مخافة أن ينتشر السم في جسمه، ربما أبغض الرجل وأكره نفسه على توليته وتقريبه لغنى يجده عنده كتكاره المرء على الدواء البشع لنفعه، إلا أن للإسلام شروطاً قد لا تستقيم هذه السيرة عليها، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما أفضت إليه الخلافة كان معاوية والياً على الشام من قبل عمر ثم عثمان رضي الله عنهما، فاستشار في أمره فقال له بعضهم: أقره على إمرته وأرسل إليه بعهده، فإن دخل في بيعتك فاعزله، فقال له: رحمك الله أتأمرني أن أطلب العدل بالجور؟ ثم عزله فكان سبب عصيانه.
وهكذا أشاروا عليه فقالوا: يا أمير المؤمنين لو فضلت هؤلاء الأشراف ومن يتخوف منهم، وإنما الناس أصحاب دنيا حتى إذا استوثق الأمر عدت إلى التسوية. فقال: أتأمروني أن أطلب العدل بالجور فيمن وليت عليه؟ والله لو كان مالي لسويت بينهم ولم أفضل بعضهم على بعض، فكيف والمال لهم وإعطاء المال في غير حقه تبذير وسرف، وهو يرفع ذكر صاحبه في الدنيا ويضعه عند الله تعالى في الآخرة؟ ولن يضع امرؤ ماله في غير حقه وعند غير أهله إلا حرمه الله تعالى شكرهم، وصير لغيره ودهم، فإن بقي معه منهم من يظهر له الود والشكر فذلك ملقى وخديعة لينال منه فإن زلت به النعل يوماً فاحتاج إلى معونته ومكافأة ما سلف من ميرته فشر خليل