وألأم خدين، وإياك أيها الوالي وحب المدح فإن من أحب المدح فهو كمن مدح نفسه. وإذا علم منك ذلك جعلك الناس سلماً لقضاء حوائجهم منك فحينئذ يكون قضاء الحوائج لنفسك لا لهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحث التراب في وجوه المداحين. وسمع المقداد رجلاً يمدح عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأخذ كفاً من تراب فألقاه في وجهه. وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يمدح رجلاً فقال: قطعت ظهر أخيك! لو سمعها ما أفلح بعدها. وفي الحديث خمس تأويلات: أحدها حمله على ظاهره كما فعل المقداد مع المداح لعثمان، والثاني أن يرفع شيئاً من التراب فينثره بين يديه كالمتذلل أي من خلق هذا ويعود إليه لا يستحق هذا الثناء، والثالث لا تقض حاجة المداحين، والعرب تقول لمن رجع خائباً من حاجاته: رجع بكفه مملوءة تراباً، والرابع نقيض هذا قاله لي شيخنا أبا العباس الجرماني قال: معناه اقض حاجته وأعطه ما سأل فإن الذي تعطيه سيصير تراباً كأنك أعطيته تراباً، والخامس أن المعنى الدعاء لأن العرب تقول إذا دعت: بفيه الحجر وبفيه التراب أي يقول للمداحين كذلك.
ووصف أعرابي أميراً فقال: كان إذا ولى لم يطابق بين جفونه وأرسل العيون على عيونه، فهو غائب عنهم شاهد معهم فالمحسن راج والمسيء خائف. وقال عبد الله بن الزبير: لا يعبدن ابن هند، يعني معاوية، إن كانت فيه لمخارج لم أجدها في أحد بعده أبداً والله إن كنا لنعرفه وما الليث الجري على برامته بأجرأ منه فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن آوى من الأرض بأدهى منه، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا حجر، وأشار إلى أبي قبيس، لا يتخون له عقل ولا تنقض له قوة، وقال الصنابجي: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه كتاباً في مثل أذن الفأرة: أما بعد فإنه لا يقيم أمر الله تعالى في الناس إلا حصيف العقدة بعيد الغرة، لا يطلع الناس منه على عورة ولا يحنق في الحق على الجراءة ولا يخاف في الله لومة لائم.
وقال مالك رضي الله عنه: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله أن يكتب له كتاباً في أمر، فقال: اذهب إلى منزلنا فأتنا بدواة وقرطاس، فذهب فلم يجد فقال اطلب عندهم شيئاً، فذهب فلم يجد عندهم إلا أذن مزود فكتب له في تلك الأذن. لما ولى المأمون يحيى بن أكثم قضاء البصرة، بعد أن استمحن عمله وعقله، امتحنه بمسائل فوجده فوق ما يريد، فتلقاه وجوه أهل البصرة فرأوا شاباً صبياً ما بقلت لحيته، فتعجبوا ونظر بعضهم إلى بعض يقلبون الأكف ويغمزون الحواجب. فقال له بعضهم: كم سن القاضي أصلحه الله تعالى؟ قال: نحو سن عتاب بن أسيد لما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فهابوه لحدة جوابه وعرفوا فضله، وكان لعتاب بن أسيد إحدى وعشرون سنة لما ولي مكة شرفها الله تعالى.
وكان عمر رضي الله عنه يقول: لا يصلح أن يلي أمور الناس إلا حصيف العقل وافر العلم قليل الغرة بعيد الهمة، شديد في غير عنف لين في غير ضعف، جواد في غير سرف لا يخاف في الله لومة لائم. وقال أيضاً: ينبغي أن يكون في الوالي من الشدة ما يكون ضرب الرقاب عنده في الحق كقتل عصفور، ويكون فيه من الرقة والحنو والرأفة والرحمة ما يجزع من قتل عصفور بغير حق. ويروى أن الرشيد أحضر رجلاً ليوليه القضاء فقال له: إني لا أحسن القضاء ولا أنا فقيه. فقال له الرشيد: فيك ثلاث خصال: لك شرف والشرف يمنع صاحبه من الدناءة، ولك حلم والحلم يمنعك من العجلة ومن لم يعجل قل خطأه، وأنت رجل تشاور في أمرك ومن شاور في أمره كثر صوابه. وأما الفقيه فتضم إليك من تفقه به. فولي فما وجد فيه مطعن.
وقال أياس بن معاوية: استحضرني عمر بن هبيرة فحضرت فسألني فسكت، فلما أطلت قال: ايه! قلت: سل عما بدا لك. قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: هل تعرف الفرائض؟ قلت: نعم. قال: هل تعرف من أيام العرب شيئاً؟ قلت: أنا بها أعلم. قال: هل تعرف من أيام العجم شيئاً؟ قلت: أنا بها أعلم. قال: إني أريد أن أستعين بك. قال: إن في ثلاثاً لا أصلح معهن للعمل. قال: ما هن؟ قلت: أنا دميم كما ترى وأنا حدد وأنا عي. قال: أما الدمامة فأريد أن أحاسد بك، وأما العي فإني أراك تعرب عن نفسك، وأما سوء الخلق فيقومك السوط! فولاني وأعطاني ألف درهم فهو أول ما تمولته. وقال سليمان بن داود