للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذا فرغ من حزبه في جوف الليل يدعو ويقول: اللهم اغفر لصاحب الكلب وارحمه. وقيل مكتوب في الإنجيل: عبدي اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، فلا أمحقك فيمن أمحق. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة: ٨٣) أي كل من لقيته فقل له حسناً من القول.

وقال لقمان لأبنه: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة: الحليم عند الغضب، والشجاع في الحرب، والأخ عند الحاجة إليه. وروي أن عبد الله الخياط كان له مجوسي يخيط عنده الثياب ويدفع له دراهم ذيوفاً، وكان عبد الله يأخذها فجاء المجوسي يوماً بدراهم رديئة فلم يجده، فأعطاه لتلميذه فلم يقبلها فدفع له صحاحاً فلما رجع عبد الله قال له تلميذه: هذه دراهم المجوسي، وذكر قصته فقال له عبد الله: بئس ما فعلت! إنه يعاملني هذه المعاملة منذ أعوام وأنا أصبر عليها وألقها في البئر لئلا يغر بها غيري! وروي أن معاوية نظر إلى يزيد يضرب ابنه فقال له: أتضرب من لا يمتنع منك؟ لقد حالت القدرة بيني وبين أولي التراث. وقال بعضهم: أصل سوء الخلق ضيق القلب، وضيقه على قسمين أدناه وأهونه أن لا يتسع لمراد الخلق، وأقصاه وشره أن لا يتسع لمراد الخالق. وقال المحاسبي: أصل السوء الخلق الإعجاب، وهل يسوء خلق الرجل إلا من عجبه وتكبره، ولا يرى فوقه أحد، ولا يعرف قدر نفسه فتداخله العزة؟ وقال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: ٤)

أي وخلقك فحسن وكان لبعض النساك شاة وكان بها معجباً، فرآها على ثلاث قوائم فقال: من فعل هذا بها فقال غلامه: أنا. وقال: ولم؟ قال: لأغمك بها! قال: لأغمن من أمرك اذهب فأنت حر! وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأى عيسى بن مريم عليه السلام رجلاً يسرق فقال له أتسرق؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو. فقال عيسى عليه السلام: آمنت بالله وكذبت عيني. وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء. وقيل الخلق السيء يضيق قلب صاحبه لأنه لا يسع فيه غير مراده، كالمكان الضيق لا يسع فيه غير صاحبه. ويقال: من سوء خلقك أن يقع بصرك على سوء خلق غيرك. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشؤم فقال: سوء الخلق! وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ادع الله تعالى على المشركين. فقال: إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً! ولما وصى يعقوب عليه الصلاة والسلام أولاده قال لهم: احفظوا عني خصلتين ما انتصفت من ظالم قط قولاً ولا فعلاً، وما رأيت حسنة إلا أفشيتها ولا رأيت سيئة إلا سترتها، كذلك فافعلوا. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا سمعتموني أقول لمملوك أخزاك الله فاشهدوا أنه حر. ويقال: سيئ الخلق هو الذي لا يملك نفسه عند الغضب. وقيل: أصل سوء الخلق أن يوافقك دون أن تطلب نفسك بموافقة غيرك، وعلامة حسن الخلق احتمال معاملة سيئ الخلق لتستر به سوء الخلق. وقيل: العارف يعاتب نفسه ولا يعاتب خلقه، وعلامة من بينه وبين نفسه عتاب أن لا يكون بينه وبين خلقه عتاب. وروي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان في حجره يتم سيئ الخلق، فمات فحزن عليه فقيل له: إنك تجد غيره. قال: فمن لي بمثل سوء خلقه؟ وكان ليحيى بن زياد الحارثي غلام سوء فقيل له: لم تمسك هذا الغلام؟ فقال: لأتعلم عليه الحلم.

وقيل في قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان: ٢٠) الظاهرة تسوية الخلق والباطنة حسن الخلق. وقال الفضيل: لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق. فإن قيل: أليس قد روى أن عيسى ويحيى بن زكريا عليهما السلام التقيا فقال يحيى لعيسى: تلقاني ضاحكاً كأنك آمن؟ فقال عيسى: وأنت تلقاني عابساً كأنك آيس؟ فأوحى الله تعالى إليهما إن أحبكما إلي أبشكما لصاحبه. قلنا: كذلك يستحب أن يكون المؤمن وليست طلاقة الوجه والتبسم في وجه أخيك منهياً عنه، وإنما المكر ومما ذكرناه في أول الباب من التملق والتصنع. وفصل الخطاب في هذا الباب ما روى هند بن أبي هالة في صفة مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير. ومعلوم أن من كان على رأسه الطير لا يبرح ولا يتحرك ولا يتكلم، ولا يطرف بعينه حذراً من أن ينفر الطائر.

وقال ابن المقفع: كان لي صديق من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه. وكان خارجاً عن سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد. وكان خارجاً عن سلطان فرجه فلا يدعو إليه مؤنة ولا يستخف له رأساً ولا بدناً. وكان خارجاً عن سلطان الجهالة فلا يقدم أبداً إلا على ثقة لنفعه. وكان أكثر دهره صامتاً فإذا قال بد القائلين. وكان متضاعفاً مستضعفاً، فإذا جاء الجد فهو الليث عادياً. وكان لا يدخل في دعوى ولا يشرك في مراء ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضياً عادلاً وشهوداً عدولاً. وكان لا يلوم أحداً على ما يكون العذر في مثله حتى يعلم ما اعتذاره. وكان لا يشكو وجعاً إلا إلى من يرجو عنه البرء ولا يستشير إلا من يرجو عنده النصيحة. وكان لا يتبرم ولا يسخط ولا يشتكي ولا ينتقم من العدو، ولا يغفل عن الوالي ولا يخص نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه وحيلته وقوته. فاقف هذه الأخلاق، فإن لم تطق فأخذ القليل خير من ترك الجميع.

وروي أن حكيماً سمع رجلاً يذم الزمان وأهله، وأنه قد فسد الناس ولم يبق أحد يصحب فقال له: يا هذا أأنت تطلب صاحباً تؤذيه فلا ينتصر وتنال منه فلا ينتصف، وتأكل رحله فلا يرزؤك بشيء وتجفو عليه فيحلم فلا ينتصف في الطلب، ولم تجد حاجتك ولكن إن أردت صاحباً يؤذيك فلا تنتصر فلا تنتقم، ويأكل رحلك ولا تنال منه شيئاً وجدت أصحاباً وإخواناً وخلاناً، وأنا أول من يصحبك.

فصل: في الفرق بين المداهنة والمداراة

من دارى سلم ومن داهن أثم. وهذا باب اختلط على معظم الخلق فداهنوا وهم يحسبون أنهم يحسنون وأنهم يدارون. فالمداهنة منهي عنها والمداراة مأمور بها. قال الله تعالى في المداهنة: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم: ٩)

قال النبي صلى الله عليه وسلم في المداراة: رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى التودد إلى الناس، وأمرت بمداراة الناس كما أمرت بأداء الفرائض. واعلم أنه إذا سقمت المداراة صارت مداهنة. فالمداراة أن تداري الناس على وجه يسلم لك دينك، وذلك أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وقد قالت قريش: يا محمد اعبد آلهتنا سنة ونؤمن بك! فأبى. قالوا: فشهراً! فأبى. قالوا: فيوماً! فأبى. قالوا: فساعة! فأبى. قالوا: فاستعملها بيدك وتؤمن بك. فوقف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وطمع إن فعل أن يؤمنوا فأنزل الله تعالى: ودوا لو تدهن فيدهنون.

وقيل له صلى الله عليه وسلم: ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ومثاله أن يقول للظالم: أبقاك الله تعالى. ومن دعا للظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى. وهذا باب ينبغي لذوي الدين حفظه. وقد رأى بعض الفقهاء الخروج من هذه العهدة بالتعريض. وكان الفقيه ابن الحصار بقرطبة له جار نصراني يقضي حوائجه وينفعه، فكان الفقيه يكثر أن يقول له: أبقاك الله وتولاك، أقرا الله عينك! يسرني والله ما يسرك! جعل الله يومي قبل يومك. لا يزيده قط على هذه الكلمات، فيبتهج النصراني ويسره. فعوتب الفقيه في ذلك

<<  <   >  >>