بظلمته فأمسوا نائمين، فبينما هم كذلك إذ ضرب زوجته الطلق وكانت حاملاً، وليس عندهم ما تحتاج إليه النفساء من الغداء والدواء، وما يصلح به شأنهم فبقوا في ضيق من الحال وقلة من الحيلة، فخرج موسى عليه الصلاة والسلام يلتفت وينظر يميناً وشمالاً يلتمس فرجاً لما أمسوا فيه من الضرر، {إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً}(طه: ١٠) . فلما أتاها أضيق ما يكون ذرعاً وأحرجه قلباً وأيئسه من رفق نودي من شاطئ الوادي الأيمن:{أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ}(القصص: ٣٠) .
وهكذا لطائف الحق سبحانه وتعالى مع من سلم لأمره ورجا فضله وتكلم بالهدى والبشرى، يفسح الله تعالى له أمله ويعطيه فوق ما سأله: هذا موسى خرج يقتبس ناراً فنودي بالنبؤة. وعن هذا قال علماؤنا ليس في خصال الخير وإن جلت ولا في أنواع الأعمال وإن عظمت أعلى من حسن الظن بالله تعالى؛ ونظمه بعض الشعراء فقال:
أيها العبد كن لما لست ترجو
من نجاحٍ أرجى لما أنت راجي
إن موسى مضى ليقبس ناراً
من شعاع قد لاح والليل داجي
فأتى أهله وقد كلم الل
هـ وناجاه وهو خير مناجي
وروي أن العدو نزل بساحل إفريقية في عدد كثير من المراكب ففني ماؤهم وعطشوا وأيقنوا بالهلاك، فنفر المسلمون إليهم في عدد كثير من تلك الحصون والسواحل، فمنعوهم النزول لاستقاء الماء، فأرسلوا إلى المسلمين أن يخلوهم لاستقاء الماء فأبوا، فتضاعف عطشهم حتى كادوا يهلكون، ففتحوا أناجيلهم ونشروا صلبانهم وأخذوا في الدعاء والاستسقاء والتضرع إلى الله تعالى، فلم يلبثوا أن أرعدت والتفت السماء بأرزاقها ثم انجلت وأرخت ماء كثيراً، فبسط القوم أنطاعهم وجفانهم وآلتهم فشربوا وملئوا أوانيهم، فضج المسلمون عند ذلك وقالوا: هؤلاء كفار أعداء الله ورسوله قد أخلصوا إلى ربهم وأنابوا إليه وسألوه ما يحيون به رمقهم، فأغاثهم فنحن أحق بالدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى وأولى بالإجابة منهم. فأخذ المسلمون في الدعاء والابتهال والصلاة إلى الله عز وجل في أن يريهم آية تقوى بها قلوب الضعفاء، ويزيد شكر أهل المعرفة والأولياء، فبينما هم كذلك إذ أرسل الله تعالى عليهم ريحاً فبددتهم ومزقتهم كل ممزق، وكسرت مراكبهم ولم يجتمع منهم اثنان.
ومن عجائب صنع الله تعالى في هذا الباب أن رجلاً من ديار بكر جاء إلى بيت المقدس، وزار قبر الخليل عليه السلام وأكل من ضيافته، فطارت حبة عدسة من الطعام في خيشومه ورام خروجها بكل حيلة، فأعجزته حتى تركته مضنى ثم رجع إلى بلاده، فبينما هو جالس إذ عطس فطارت العدسة في الأرض، فإذا طائر قد التقطها لوقتها وبرئ الرجل، فسبحان من جعل أنف هذا الرجل حرزاً لقوت هذا الطائر على بعد الشقة وطول المدة، وكان ذلك سبباً لبرئه.
وأما أنا فلما هممت بالرحيل من بلدي إلى المشرق في طلب العلم، وكنت لا أعرف التجارة ولا لي حرفة أرجع إليها، فجزعت من الخروج وكنت أقول: إني إن ذهبت نفقتي ماذا أفعل؟ وكان أقوى الآمال في نفسي أن أحفظ البساتين بالأجرة وأدرس العلم بالليل، ثم استخرت الله تعالى فرحلت وكانت معي نفقة وافرة في همياني على وسطي، وكنت أسمع المسافرين يقولون: من نام بالليل في الفيافي ومعه نفقته على وسطه فليحلها، فإن اللصوص إذا كاثرت الخلق يبتدرون أوساطهم. فخرجت من بلاد السويدية إلى أنطاكية وهي إذ ذاك حرم للروم،