منها أشياء تجري مجرى المعاقد ولا يكاد يختلف في أنها أزمة الحروب.
ونبدأ أولاً بما ذكره الله تعالى في القرآن قال الله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}(الأنفال: ٦٠) وقوله تعالى: {ما استطعتم} مشتمل على كل ما هو في مقدور البشر من العدة والآلة والحيلة. وفسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة حين مر على أناس يرمون فقال: ألا إن القوة الرمي. وكان بعض أصحابه إذا أراد الغزو ولا يقص أظفاره، ويتركها عدة ويراها قوة. فأول ذلك أن يقدم بين يدي اللقاء عملاً صالحاً من صدقة وصيام ورد مظلمة، وصلة رحم ودعاء مخلص وأمر بمعروف ونهي عن منكر وأمثال ذلك. فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر بذلك ويقول: إنما تقاتلون بأعمالكم.
ويروى أن بريداً ورد عليه بفتح المسلمين فقال عمر: أي وقت لقيتم العدو؟ قال: غدوة. قال: ومتى انهزم؟ قال: عند الزوال. فقال عمر رضي الله عنه: إنا لله وإنا إليه راجعون، قاوم الشرك الإيمان من غدوة إلى الزوال لق أحدثتم بعدي حدثاً أو أحدثت بعدكم حدثاً. والشان كل الشان في استجادة القواد وانتخاب الأمراء وأصحاب الألوية. فقد قالت حكماء العجم: أسد يقود ألف ثعلب خير من ثعلب يقود ألف أسد. فلا ينبغي أن يقدم على الجيش إلا الرجل ذو البسالة والنجدة والشجاعة والجراءة ثبت الجنان صارم القلب جريئه، رابط الجأش صادق اليأس، ممن قد توسط الحروب ومارس الرجال ومارسوه، ونازل الأقران وقارع الأبطال، عارفاً بمواضع الفرص خبيراً بمواقع القلب والميمنة والميسرة من الحروب، وما الذي يجب سده بالحماة والأبطال من ذلك، بصيراً بصفوف العدو ومواقع الغرة منه، ومواضع الشدة منه، فإذا كان كذلك وصدر الكل عن رأيه كان جميعهم كأنهم مثله، فإن رأى لقراع الكتائب وجهاً وإلا رد الغنم إلى الزريبة.
واعلم أن الحرب خدعة عند جميع العقلاء، وآخر ما يجب ركوبه قرع الكتائب وحمل الجيوش بعضها على بعض فليبدأ بصرف الحيلة في نيل الظفر. قال نصر بن سيار: كنت أمير خراسان من قبل مروان الجعدي، آخر ملوك بني أمية، قال: كان عظماء الترك يقولون ينبغي للقائد العظيم القياد أن تكون فيه عشرة أخلاق من أخلاق البهائم: شجاعة الديك وبحث الدجاجة وقلب الأسد وحملة الخنزير وروغان الثعلب وصبر الكلب على الجراح وحراسة الكركي وغارة الذئب وسمن نغير، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والشقاء. وكان يقال أشد خلق الله تعالى عشرة الجبال، والحديد ينحت الجبال والنار تأكل الحديد والماء يطفئ النار والسحاب يحمل الماء، والريح تصرف السحاب والإنسان يتقي الريح بجناحيه، والسكر يصرع الإنسان والنوم يذهب السكر، والهم يمنع النوم فأشد خلق ربكم الهم.
فأول ذلك أن يبث جواسيسه في عسكر عدوه ليستعلم أخباره مع الساعات، ويستميل قلوب رؤسائهم وقوادهم وذوي الشجاعة منهم فيدس إليهم ويعدهم وعداً جميلاً ويوجه إليهم بضروب الخدعة، ويقوي أطماعمهم في نيل ما عنده من الهبات الفخيمة والولايات السنية. وإن رأى وجهاً عاجلهم بالهدايا والتحف وسامهم إما الغدر بصاحبهم وإما الاعتزال وقت اللقاء، وينشئ على ألسنتهم كتباً مدلسة إليهم ويبثها في عسكره، ويكتب على السهام أخباراً مزورة ويرمي بها في جيوشهم، ويضرب بينهم بما في الميسور من ذلك فإن جميع ما ذكرناه تنفق فيه الأموال والخيل، واللقاء تنفق فيه الأرواح والرؤوس، ووجوه الخداع فيه