لا تحصى والحاضر فيه أبصر من الغائب. ولله در المهلب لما كتب إليه الحجاج يستعجله في حرب الأزارقة، رد الجواب فقال: إن من البلاء أن يكون الرأي عند ابن زياد: امض إلى عدوك برأي غير مستند وحزم غير متكل، ولا تركن إلى الدولة فربما انقلبت وانتشر من لا يطمع في عملك ولا يسر بقتلك، واستخر، الله تعالى قبل إقدامك توفق. وأوصت أم الديال العبسية ابنها القتال وهو من أشد العرب: يا بني لا تنشب في حرب إذا وثقت بشدتك حتى تعرف وجه المهرب منها، فإن النفس أقوى شيء إذا وجدت سبيل الحيلة وأضعف شيء إذا يئست منها، وأحمد الشدة ما كانت الحيلة مدبرة لها إذا لم يكن النصر من الله تعالى قائداً لها، واخلس من تحارب خلسة الذئب، وطر منها طيران الغراب فإن الحذر زمام الشجاعة والتهور عدو الشدة. وقال أبو السرايا وكان أحد الفتاك لابنه: يا بني كن بحليتك أوثق منك بشدتك، وبحذرك أوثق منك بشجاعتك فإن الحرب حرب المتهور وغنيمة الحذر.
واعلم أن الدول إذا زالت صارت حيلها وبالاً عليها، وإذا أذن الله تعالى في حلول البلاء، كانت الآفة في الحيلة. وقالت الحكماء: إذا نزل القضاء كان العطب في الحيلة، وإذا نقضت مدة الدول أدبرت سنة الغفلة من سنة الحذر، ويغلب الضعيف بإقبال دولته كما يغلب القوي ببقاء عدته، وقالوا: سعود الدول ونحوسها مقرونة بسعود الملك ونحوسه. وقالوا: بناء كل امرئ دولته فإذا انقضت بدت عورته. وقال بعض الحكماء: إذا ولت دولة ولت أمة، وإذا أتت دولة نتجت أمة. وقالوا: رب حيلة أهلكت المحتال، ومن الحزم المألوف عند سواس الحروب أن تكون حماة الرجال وكماة الأبطال في القلب فإنه مهما انكسر الجناحان فالعيون ناظرة إلى القلب، فإذا كانت راياته تخفق وطبوله تضرب، كانت حصناً للجناحين يأوي إليه كل منهزم، وإذا انكسر القلب تمزق الجناحان.
مثال ذلك أن الطائر إذا انكسر أحد جناحيه ترجى عودته، ولو بعد حين وإذا انكسر الرأس ذهب الجناحان، ولا تحصى كثرة انكسار جناح العسكر وثبات القلب، ثم يرجع الفارون إلى القلب ويكون الظفر لهم. وقل عسكر انكسر قلبه فأفلح اللهم إلا أن تكون مكيدة من صاحب الجيش، فيخلي القلب قصداً وتعمداً ولا يغادر به كبير أمر حتى إذا توسطه العدو واشتغل بنهبه انطبق عليه الجناحان.
ومن أعظم المكائد في الحروب الكمين، ولا يحصى كثرة كم من عسكر استبيحت بيضته وقل عربه بالكمناء، وذلك أن الفارس لا يزال على حمية في الدفاع وحمي الذمار، حتى يلتفت فيرى وراءه بنداً منشوراً ويسمع صوت الطبل، فحينئذ يكون همه خلاص نفسه ولتكن همتك وراء ذلك وعليه مدار الحروب، وعليك بانتخاب الشجعان واختيار الأبطال فاصطنع ذوي البسالة والإقدام والجراءة، ولا عليك أن لا يكثروا وبعيد عليك أن يكسروا، فهم في الجيش وإن كالإنفحة في اللبن. ولا تنس بيت الشاعر:
والناس ألف منهم كواحد
وواحد كالألف إن أمر عنا
بل قد جرب ذلك فوجد الواحد خيراً من عشرة آلاف. وسأحكي لك من ذلك ما ترى فيه العجب: فمن ذلك لما التقى المستعين بن هود مع الطاغية ابن روميل النصراني، على مدينة وشقة من ثغور بلاد الأندلس، وكان العسكران كالمتكافئين كل واحد منهما يراهق عشرين ألف مقاتل بين خيل ورجل، فحدثني رجل ممن حضر الوقعة