للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من الأجناد قال: لما دنا اللقاء قال الطاغية بن روميل لمن يثق بعقله وممارسته للحروب من رجاله: استعلم لي من في عسكر المسلمين من الشجعان الذين نعرفهم كما يعرفونا ومن غاب منهم ومن حضر. فذهب ثم رجع فقال: فيهم فلان وفلان حتى عد سبعة رجال. فقال له: انظر الآن من في عسكري من الرجال المعروفين بالشجاعة ومن غاب منهم، فعدهم فوجدهم ثمانية رجال لا يزيدون.

فقام الطاغية ضاحكاً مسروراً وهو يقول ما أبيضك من يوم! ثم نشبت الحرب بينهم فلم تزل المضاربة بين الفريقين لم يول أحدهم دبرة ولا تزحزح عن مقامه، حتى فنى أكثر العسكرين ولم يفر أحد منهم، قال: فلما كان وقت العصر نظروا إلينا ساعة ثم حملوا علينا حملة وداخلونا مداخلة، ففرقوا بيننا وصرنا شطرين وحالوا بيننا وبين أصحابنا وصاروا بيننا، فكان ذلك سبب وهننا وضعفنا، ولم تقم الحرب إلا ساعة ونحن في خسارة معهم، فأشار مقدم العسكر على السلطان أن ينجو بنفسه وانكسر عسكر المسلمين، وتفرق جمعهم وملك العدو مدينة وشقة. فليعتبر ذو الحزم والبصيرة من جمع يحتوي على أربعين ألف مقاتل ولا يحضره من الشجعان المعدودين إلا خمسة عشر رجلاً، وليعتبر بضمان العلج الظفر واستشاره بالغنيمة لما زاد في أبطاله رجل واحد.

وسمعت أستاذنا القاضي أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى يحكي قال: بينما المنصور بن أبي عامر في بعض غزواته إذ وقف على نشز من الأرض مرتفع، فرأى جيوش المسلمين بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره قد ملؤا السهل والجبل، فالتفت إلى مقدم العسكر وهو رجل يعرف بابن المضجعي فقال: كيف ترى هذا العسكر أيها الوزير؟ فقال ابن المضجعي: أرى جمعاً كثيراً وجيشاً واسعاً. فقال له المنصور: لا يعجزنا أن يكون في هذا الجيش ألف مقاتل من أهل الشجاعة والبسالة. فسكت ابن المضجعي فقال المنصور: وما سكوتك؟ أليس في هذا الجيش ألف مقاتل؟ قال: لا! قال: فتعجب المنصور ثم انعطف عليه فقال: أفيهم خمسمائة رجل من الأبطال المعدودين؟ قال: لا! فحنق المنصور ثم انعطف عليه فقال: أفيهم مائة رجل من الأبطال؟ قال: لا! قال: أفيهم خمسون رجلاً من الأبطال؟ قال: لا! فسبه المنصور واستخف به وأمر به فأخرج على أقبح وجه. فلما توسطوا بلاد المشركين اجتمعت الروم وتصاف الجمعان. فبرز علج من الروم بين الصفين شاك في سلاحه يكر ويفر وهو ينادي: هل من مبارز؟ فبرز له رجل من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله العلج، ففرح المشركون وصاحوا واضطرب لها المسلمون، ثم جعل العلج يمرح بين الصفين وينادي: هل من مبارز اثنان لواحد؟ فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله العلج، وجعل يكر ويحمل وينادي هل من مبارز ثلاثة لواحد؟ فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله العلج. فصاح المشركون وذل المسلمون وكادت تكون كسرة.

فقيل للمنصور: ما لها إلا ابن المضجعي! فبعث إليه فحضر فقال له المنصور: أما ترى ما يصنع هذا العلج الكلب منذ اليوم؟ قال: بلغني جميع ما جرى. قال: فما الحيلة فيه؟ قال: وما الذي تريد؟ قال: أن تكفي المسلمين شره. قال: نعم الآن! ثم قصد إلى رجال يعرفهم فاستقبله رجل من أهل الثغور على فرس قد نشرت أوراكها هزالاً، وهو يحمل قربة ماء بين يديه على الفرس، والرجل في نفسه وحليته غير متصنع، فقال له ابن المضجعي: ألا ترى ما يصنع هذا العلج منذ اليوم؟ فقال: قد رأيته فماذا ترى فيه؟ قال له: أريد رأسه الآن! قال: نعم. فحمل القربة إلى رحله ولبس لامة حربه وبرز إليه. فتجاولا ساعة فلم ير الناس إلا والمسلم خارج إليهم يركض ولا يدرون ما هناك، فإذا الرجل يحمل رأس العلج فألقى

<<  <   >  >>