للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نحن، عملنا أمرنا. فصبروا إلى أن زالت الشمس ثم صلوا ودعوا الله تعالى أن ينصر دينهم ويربط على قلوبهم بالصبر، وأن يوهن عدوهم وأن يلقي في قلوبهم الرعب.

وكان البارسلان قد استوثق من خيمته ملك الروم وعلامته وفرسه وزيه ثم قال لرجاله: لا يتخلف أحد منكم حتى يفعل كفعلي، ويضرب بسيفه ويرمي بسهمه حيث أضرب بسيفي وأرمي بسهمي. ثم حمل برجاله حملة رجل واحد إلى خيمة ملك الروم، فقتلوا من كان دونها وخلصوا إليه وقتلوا من حوله، وأسر ملك الروم وجعلوا ينادون بلسان الروم: قتل الملك! فسمعت الروم أن ملكهم قد قتل فتبددوا وتمزقوا كل ممزق، وعمل السيف فيهم أياماً وأخذ المسلمون أمولهم وغنائمهم. واستحضر ملك الروم بين يدي البارسلان بحبل في عنقه فقال له البارسلان: ما كنت تصنع بي لو أخذتني؟ قال: فهل تشك أني كنت أقتلك؟ فقال له البارسلان: أنت أقل في عيني أن أقتلك! اذهبوا به وبيعوه لمن يريده، فكان يقاد بالحبل في عنقه وينادي عليه: من يشتري ملك الروم؟ وما زالوا يطوفون على الخيام ومنازل المسلمين وينادى عليه بالدراهم والفلوس، فلم يدفع أحد فيه شيئاً حتى باعوه من إنسان بكلب، فأخذ الذي كان يتولى ذلك من أمره الكلب والملك، فحملها إلى البارسلان وقال: قد طفت جميع العسكر وناديت عليه فلم يبذل أحد فيه شيئاً إلا رجل واحد دفع لي فيه كلباً! قال: قد أنصف لأن الكلب خير منه، فاقبض الكلب وادفع إليه هذا الكلب! ثم إنه أمر بعد ذلك بإطلاقه فذهب إلى قسطنطينية فعزلته الروم وكحلته بالنار. فانظر ماذا يأتي على الملوك إذا عرفوا في الحرب من الحيلة والقصد والمكيدة.

واعلم أن القدماء قالوا: الكثرة للرعب والقلة للنصر. وقد قال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (التوبة: ٢٥) . فالكثرة أبداً يصحبها الإعجاب، ومع الإعجاب الهلاك. وخير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب جيش يبلغ اثني عشر ألفاً من قلة إذا اجتمعت كلمتهم.

وأما صفة اللقاء وهو أحسن ترتيب رأيناه في بلادنا، وهو أرجى تدبير نفعله في لقاء عدونا، أن نقدم الرجالة بالدرق الكاملة والرماح الطوال والمزاريق المسنونة النافذة، فيصفوا صفوفهم ويركزوا مراكزهم ورماحهم خلف ظهورهم في الأرض، وصدورها شارعة إلى عدوهم جثياً في الأرض، وكل رجل منهم قد ألقم الأرض ركبته اليسرى وترسه قائم بين يديه، وخلفهم الرماة المختارون التي تمزق سهامهم الدروع، والخيل خلف الرماة فإذا حملت الروم على المسلمين لم تتزحزح الرجالة عن هيئاتها ولا يقم رجل منهم على قدميه، فإذا قرب العدو رشقتهم الرماة بالنشاب والرجالة بالمزاريق وصدور الرماح تتلقاهم، فاخذوا يمنة ويسرة فتخرج خيل المسلمين بين الرماة والرجالة، فتنال منهم ما شاء الله تعالى.

ولقد حدثني من حضر مثل هذه الوقعة ببلدي طرطوشة قال: صاففنا الروم على هذا الترتيب فحملوا علينا، فبينا رجل منا كان في آخر الصف فقام على قدميه، فحمل عليه علج من العدو فأصاب غرته فقتله. ولما برز المقتدر بالله بن هود ملك الأندلس من سرقسطة في ثغور بلاد الأندلس للقاء الطاغية روميل، عظيم الروم، وكان كل واحد منهما قد احتشد منهما بما في ميسوره، فالتقى المسلمون والكفار ثم تنازلوا للقتال وتصاففوا، ودام القتال بينهم صدراً كثيراً وكان المسلمون في خسران، فأفزع المقتدر ذلك وفرق المسلمون من شر ذلك اليوم، فدعا المقتدر رجلاً من المسلمين لم يكن في الثغور أعرف

<<  <   >  >>