للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

معقودان في يده. قلت: فكيف حكمه؟ قال: يرج الظلم ويردع الظالم ويعطي كل ذي حق حقه، فالرعية اثنان راض ومغتبط. قلت: فكيف هيبتهم له، قال يتصور في القلوب فتغضي له العيون.

قال: فنظر رسول ملك الحبشة إلى إصغائي إليه وإقبالي عليه، وكانت الرسل تنزل عندي فقال لترجمانه: ما الذي يقول الرومي؟ قال: يصف له ملكهم ويذكر سيرته. فكلم الترجمان بشيء فقال لي الترجمان: أنه يقول أن ملكهم ذو أناة عند المقدرة وذو حلم عند الغضب، وذو سطوة عند المغالبة وذو عقوبة عند الاحترام، قد كسا رعيته جميل نعمته وقصرهم بعنيف عقوبته، فهم يتراءونه ترائي الهلال خيالاً ويخافونه مخافة الموت نكالاً، وقد وسعهم عدله وردعتهم سطوته وبأسه، فلا يمتهنه مرحه ولا يوثقه عقله. إذا أعطى أوسع وإذا عاقب أوجع، فالناس اثنان راج وخائف، فلا الراجي خائب الأمل ولا الخائف بعيد الأجل.

قلت: فكيف رهبتم له؟ قال: لا ترفع إليه العيون أجفانها ولم تتبعه الأبصار إنسانها، كأن رعيته قطاً فرقت عليها صقور صوائد. فحدث المأمون بهذين الحديثين فقال لي: كم قيمتها عندك؟ قلت: ألفا درهم. قال: يا فضل إن قيمتها أكثر من الخلافة، أما علمت حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: قيمة كل امرئ ما يحسن أفتعرف أحداً من الخطباء البلغاء أن يصف أحداً من الخلفاء الراشدين المهديين بمثل هذه الصفة؟ قلت: لا. قال: فقد أمرت لهما بعشرين ألف دينار معجلة، واجعل العدة مادة بيني وبينهما على العود، فلولا حقوق الإسلام وأهله لرأيت إعطاءهما ما في بيوت المال الخاصة والعامة دون ما يستحقانه.

وقال الفضل بن سهل: كان عندي رسول ملك الروم، وكان يحدثني عن أخت الملك يقال لها خاتون قال: أصابتنا سنة احتدم شواظها علينا بحرارة المصائب وصنوف الآفات، ففزع الناس إلى الملك فلم يدر ما يجيبهم به. فقالت له خاتون: يا أيها الملك إن الحزم علق لا يخلق جديده ولا يمتهن عزيزه، وهو دليل الملك على استصلاح رعيته وزاجر له عن استفسادها، وقد فزعت رعيتك إليك لفضل العجز عن الالتجاء إلى من لا تزيده الإساءة إلى خلقه عزاء، ولا ينقصه العود بالإحسان إليهم ملكاً، وما أحد أولى بحفظ الوصية من الموصى ولا بركوب الدلالة من الدال، ولا بحسن الرعاية من الراعي ولم تزل في نعمته لم تغيرها نقمة، وفي رضى لم يكدره سخط إلى أن جرى القدر بما عمي البصر وذهل عنه الحذر، فسلب الموهوب والسالب هو الواهب، فعد إليه بشكر النعم وعذبه من فظيع النقم، فمتى تنسه ينسك، ولا تجعلن الحياء من التذلل للمعز المدل شركاً بينك وبين رعيتك، فتستحق مذموم العاقبة، ولكن مرهم ن ونفسك بصرف القلوب إلى الإقرار بالله بكنه القدرة، وبتذلل الألسن في الدعاء بمحض الشكر له تعالى، فإن الملك ربما عاقب عبده ليرجعه عن سيئ فعل إلى صالح عمل، وليبعثه على دؤب شكر يحوز به أفضل أجر.

فأمرها الملك أن تقوم فيهم وتنذرهم بهذا الكلام ففعلت، فرجع القوم عن بابه. وقد علم الله تعالى منهم قبول الوعظ في الأمر والنهي فحال الحول عليهم وما بينهم مفتقد نعمة كان قد سلبها، وتوارت عليهم الزيادات بجميل الصنيع، فاعترف الملك لها بالفضل فقلدها الملك بعده وجمع الرعية على الطاعة لها في المحبوب والمكروه. فهذا فعل الله تعالى بأعدائه وضرائر نعمه، لما شكروه أعاد لهم من نعمه ما كان قد استرجع وزادهم من فضله ما تمنوه، فكيف بمن يوحدونه ويؤمنون به لو صدقت نياتنا وضمائرنا؟ وقال

<<  <   >  >>