للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الواقدي: توفي رسول بعض الملوك بدمشق في خلافة هشام بن عبد الملك فوجد في جيبه لوح من ذهب مكتوب فيه: إذا ذهب الوفاء نزل البلاء، وإذا مات الاعتصام عاش الإنتقام، وإذا ظهرت الخيانات امتحقت البركات.

وقال الوضاحي: وجه أنوشروان رسولاً إلى الملك قد أجمع على محاربته وأمره أن يتعرف سيرته في نفسه ورعيته، فرجع إليه فقال: وجدت عنده الهزل أقوى من الجد والكذب أكثر من الصدق والجور أرفع من العدل. فقال أنوشروان: رزقت الظفر به سر إليه وليكن عملك في محاربته بما هو عنده أضعف وأقل وأوضع، فإنك منصور وهو مخذول. فسار إليه فقتله واستولى على مملكته. وقال بزرجمهر: المزح آفة الجد والكذب عدو الصدق والجور مفسدة، فإذا استعمل الملك الهزل ذهبت هيبته، وإذا استصحب الكذب استخف به، وإذا بسط الجور فسد سلطانه. وكان نقش خاتم رستم وهو أحد ملوك الفرس: الهزل مبغضة والكذب منقصة والجور مفسدة. وقتل لبعض أصحاب اسفنديار رجل من الترك، فأصيب في عنقه لوح من ذهب مكتوب فيه: آفة الشدة التهيب وآفة المنطق الحياء وآفة كل شيء الكذب.

وقيل لبعض الحكماء: ما قيمة الصدق؟ قال: الخلد في الدنيا. قيل: فما قيمة الكذب؟ قال: موت عاجل. قيل: فما قيمة العدل؟ قال: ملك الأبد. قيل: فما قيمة الجور؟ قال: ذل الحياة قال: وسأل ملك الهند الإسكندر وقد دخل بلاده: ما علامة الملك ودولته؟ قال له: الجد في كل الأمور. قال: فما علامة زواله؟ قال: الهزل فيه. قال: فما سرور الدنيا؟ قال: الرضاء بما رزقت. قال: فما غمها قال: الحرص على ما لعلك لا تناله. وقال بزرجمهر: ثلاث هن سرور الدنيا وثلاث هن غمها: فأما السرور فالرضاء بالقسم والعمل بالطاعة في النعم ونفي الاهتمام بالرزق لغد، وأما الغم فحرص مسرف وسؤال مجحف، وتمنى ما يلهف.

ومر بعض الملوك بغلام يسوق حماراً غير منبعث، وقد عنف عليه في السوق فقال: يا غلام ارفق به. فقال الغلام: أيها الملك في الرفق به مضرة عليه. قال: وما مضرته؟ قال: يطول طريقه ويشتد جوعه، وفي العنف به إحسان إليه. قال: وما الإحسان إليه؟ قال: يخف حمله ويطول أكله. قال فأعجب الملك بكلامه وقال له: قد أمرت لك بألف درهم. فقال: رزق مقدور وواهب مأجور. قال: وقد أمرت بإثبات اسمك في جيشي. فقال: كيف مؤونة ورزقت بها معونة. قال: لولا أنك حديث السن لاستوزرتك. قال: لن يعدم الفضل من رزق العقل. قال: فهل تصلح لذلك؟ قال: إنما يكون المدح والذم بعد التجربة ولا يعرف الإنسان نفسه حتى يبلوها. قال فاستوزره فوجده ذا رأي صائب وفهم رحيب ومشورة تقع مواقع التوفيق.

قال: وكتب الإسكندر إلى أرسطاطاليس، وقد نفذت يده في المشرق والمغرب وبلغ منهما ما لم يبلغه أحد قبله: اكتب إلي لفظاً موجزاً ينفع ويردع. فكتب إليه: إذا استولت بك السلامة فجدد ذكر العطب، وإذا هنتك العافية فحدث نفسك بالبلاء، وإذا اطمأن بك الأمن فاستشعر الخوف، وإذا بلغت نهاية الأمل فاذكر الموت، وإذا أحببت نفسك فلا تجعلن لها في الإساءة إليها نصيباً. قال ووعظ بعض الحكماء ملكاً فقال له: أيها الملك إن الدنيا دار عمل والآخرة دار ثواب، ومن لا يقدم لا يجد فأذق نفسك حلاوة عيشها بترك الإساءة إليها. واعلم أن زمام العافية بيد البلاء وأمن السلامة تحت جناح العطب، وباب الأمن مستور بالخوف فلا تكونن في حال من هذه الثلاثة غير متوقع لأضدادها ولا تجعل نفسك غرضاً لسهام الهلكة، فإن الدهر عدو بن آدم فاحترز من عدوك بغاية

<<  <   >  >>