للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الاستعداد، وإن فكرت في نفسك وعدوها استغنيت عن الوعظ.

قال وكتب الإسكندر على باب الإسكندرية أجل قريب في يد غيرك وسوق حثيث من الليل والنهار، وإذا انتهت المدة حيل بينك وبين المدة فاحتل قبل المنع واكرم أجلك بحسن صحبة السابقين، وإذا آنستك السلامة فاستوحش العطب فإنه الغاية، وإذا فرحت بالعافية فاحزن للبلاء فإليه تكون الرجعة، وإذا بسطك الأمل فاقبض نفسك عنه بذكر الأجل فهو الموعد وإليه المورد. وقال ابن الأعرابي: حدثني من رأى بين إصبهان وفارس حجراً مكتوباً عليه: العافية مقرونة بالبلاء والسلامة مقرونة بالعطب والأمن مقرون بالخوف. ولما ضرب أنوشروان عنق بزرجمهر لما رغب عن دين المجوسية وانتقل إلى دين المسيح عليه السلام، وجد في منطقته كتاباً فيه ثلاث كلمات: إذا كان المقدر حقاً فالحرص باطل، وإذا كان الغدر في الناس طباعاً فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت بكل أحد نازلاً فالطمأنينة إلى الدنيا حمق.

ولما تاب الله تعالى على سلمان بن داود عليه الصلاة والسلام ورد عليه ملكه: كتب على كرسيه: إذا صحت العافية نزل البلاء، وإذا تمت السلامة نجم العطب، وإذا تم الأمن علق الخوف. وحفر حفير بفارس فوجد فيه لوح رخام فيه أربعة أسطر محفورة: أولها أيها المعافي ابشر بالبلاء، والثاني أيها السالم توقع العطب، والثالث أيها الآمن خذ أهبة الخوف، والرابع أيها الموسر لن يبعد عنك العسر. ولما نزل أبو مسلم مدينة سمرقند أتاه اسبهندها فقال: أيها الملك إن بالقندهارس حجراً مدفوناً فيه ثلاثة أسطر وجدت في الكتب، وإن سليمان بن داود عليه السلام بعث به ودفن في هذا الموضع ووجد أنك أنت الذي تستخرجه وتعمل بما فيه. فأمر به فأخرج فإذا أول سطر فيه: الحزم انتهاز الفرصة وترك الونى فيما يخاف عليه الفوت. والسطر الثاني: الرياسة لا تتم إلا بحسن السياسة. والسطر الثالث: لم يقتل الآباء من ترك الأبناء ولم يصب من لم يحب.

فكان أبو مسلم يقول: علم جليل به تتم هذه الدولة إن لم ينزل القدر ربما يحول بيننا وبين الحذر، فلم يزل يستعمل هذا الكلام إلى أن قدم العراق فأعماه القدر عن الاستعانة بالحذر، فقتله أبو جعفر المنصور. ولما حج أبو مسلم قيل له: إن بالحيرة نصرانياً قد أتت له مائتا سنة وعنده علم من العلم الأول، فوجه إليه فأتي به. فلما نظر الشيخ إلى أبي مسلم قال: قدمت بالكفاية ولم تأل في العناية وقد بلغت النهاية، أسلمت نفسك لمن سيسكت حسك وكأن قد عاينت رمسك. فبكى أبو مسلم فقال: لا تبك لأنك لم تؤت من حزم وثيق ولا من رأي دقيق ولا من تدبير نافع ولا من سيف قاطع، ولكن ما استجمع لا حد في أمله إلا أسرع في تقريب أجله. قال: فمتى تراه يكون؟ قال: إذا توطأ الخليفتان على أمر كان والتقدير في يد من يبطل معه التدبير، وإن رجعت إلى خراسان سلمت وهيهات، فأراد الرجوع فكتب إليه السلطان بالمضي ووجه إليه من يحثه، فلولا أن البصير يعمى إذا نزل القدر لكانت هذه دلالة تقع موقع العيان، وتبعث على التيقظ بالحذر والاحتيال في الهرب، على أن لكل نفس غاية ولكل أمر نهاية.

وقيل لجالينوس وهو حكيم الطب وفيلسوفه وفد نهكته العلة: ألا تتعالج؟ فقال: إذا كان الداء من السماء بطل الدواء، وإذا قدر الرب بطل حذر المربوب، ونعم الدواء الأجل وبئس الداء الأمل! وقال بعض الغزاة فتحنا حصناً من بلاد الروم فرأينا فيه صورة أسد من حجر مكتوب عليه: الحيلة خير من الشدة والتأني أفضل من العجلة، والجهل في الحرب أحزم من العقل

<<  <   >  >>