للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والتفكر في العاقبة مادة الجزع. وقال أحمد بن سهل: وجه ملك الروم إلى هارون الرشيد بثلاثة أسياف مع هدايا كثيرة، وعلى سيف منها مكتوب: أيها المقاتل احمل تغنم ولا تفتكر في العاقبة فتهزم. وعلى الثاني مكتوب: إذا لم تصل ضربة سيفك فصلها بإلقاء خوفك. وعلى الثالث مكتوب: التأني فيما لا تخاف عليه الفوت أفضل من العجلة إلى أدراك الأمل. وقال الحسن ابن سهل: قرأت في كتاب جاويدان جرد: ثلاثة تبطل مع ثلاثة: الشدة مع الحيلة والعجلة مع التأني والإسراف مع القصد.

وقال الخضر بن علي: رأيت بعدن حجراً مكتوب بالحميرية: أيها الشديد احذر الحيلة، أيها العجول احذر التأني، أيها المحارب لا تأنس بالتفكر في العاقبة، أيها الطالب موجوداً لا تقطع أملك من بلوغه. وكتب قيصر إلى كسرى: أخبرني بأربعة أشياء لم أجد من يعرفها وأخالها عندك، أخبرني ما عدو الشدة ومدرك للأمل وصديق الظفر ومفتاح الفقر؟ فكتب إليه كسرى: الحيلة عدو الشدة والصبر صديق الظفر والتأني مدرك الأمل والجود مفتاح الفقر. وقال بعض الملوك لحكيم وقد أراد سفراً: أوقفني على أشياء من حكمتك اعمل بها في سفري. فقال له: اجعل تأنيك زمام عجلتك وحيلتك رسول شدتك وعفوك ملك قدرتك، وأنا ضامن لك قلوب رعيتك إن لم تحرجهم بالشدة عليهم أو تبطرهم بالإحسان إليهم.

وقال الخضر بن علي: قرأت في كتاب جاويدان جرد وهو أجل كتاب الفرس: الحيلة أنفع من أقوى الشدة وأقل التأني أحد من أكثر العجلة، والدولة رسول القضاء المبرم. وإذا استبد الإنسان برأيه عميت عليه المراشد وكان الجنكان أبو بزرجمهر خامل القدر وضيع الحال مفهه المنطق، فلما أتت على بزرجمهر خمس عشرة سنة حضر مجلس الملك، وقد جلست الوزراء على كراسيها والمرازبة في مجالسها وقف فحي الملك ثم قال: الحمد لله المأمول نعمه المرهوب نقمة، الدال عليه بالرغبة إليه المؤيد الملك بسعود الفلك، حتى رفع شأنه وعظم سلطانه وأنار به البلاد فعاش به العباد، وقسم له في التقدير وجوه التدبير، فرعى رعيته بفضل نعمته وحماها الموبلات وأوردها المعيشات، وزادها عن الآكلين وألفها بالرفق واللين، إنعاماً من الله تعالى عليه وتثبيتاً لما في يديه، وأسأله أن يبارك له فيما آتاه ويختار له فيما استرعاه، ويرفع قدره في السماء وينشر ذكره تحت الماء، حتى لا يبقى له بينهما مناوي ولا يجد له فيهما مداني، واستوهب له حياة لا تنغيص فيها وقدرة لا يشاد عنها، وملكاً لا بؤس فيه وعافية تديم له البقاء وتكثر له النعماء، وعزاً يؤمنه من انقلاب رعية وهجوم بلية، فإنه مولى الخير ودافع الشر.

فأمر الملك فحشى فمه بثمين الجواهر ورفيعه، ولم تدفع حداثة سنه مع نبل كلامه أن استوزره وقلده خيره وشره، فكان أول داخل وآخر خارج. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما لله على تعالى على العاقل نعمة بعد الإسلام أفضل من مباينة هذه السفلة بالفهم والعقل، ولو لم يكن هذا ما عرف الله تعالى إلا بالجهل. ألا ترى أن الله تعالى خاطب أولي النهي والألباب وذوي البصائر فيجب على العلية أن يحمدوا الله تعالى على مباينة هذه السفلة بالعقول والأفهام كما يحمدونه على جميع النعم. وقيل لمروان ابن محمد وهو آخر ملوك بني أمية: ما الذي صار بك إلى هذا قال: الاستبداد برأيي لما كثرت علي كتب نصر بن سيار أن أمده بالأموال والرجال. قلت في نفسي: هذا رجل يريد الاستكثار من الأموال والجند بما يظهر لي من فساد الدولة قبله، وهيهات

<<  <   >  >>