وأطول الطول فلم أقع في شيء أضر علي من لساني. ومشيت على الأجمر ووطئت على الرمضاء فلم أر ناراً أحر علي من غضبي إذا تمكن مني.
وطالبتني الطلاب فلم يدركني مدرك مثل إساءتي. ونظرت ما الداء القاتل ومن أين يأتيني فوجدته من معصية ربي سبحانه. والتمست الراحة لنفسي فلم أجد شيئاً أروح لها من تركها ما لا يعنيها. وركبت البحار ورأيت الأهوال فلم أر هولاً مثل الوقوف على باب سلطان جائر. وتوحشت في البرية والجبال فلم أر أوحش من قرين السوء. وعالجت السباع والضباع والذئاب وعاشرتها وعاشرتني وغلبتها فغلبتني صاحب الخلق السوء. وأكلت الطيب وشربت المسكر وعانقت الحسان، فلم أجد شيئاً ألذ من العافية والأمن، وتوسطت الشياطين والجبال فلم أجزع إلا من الإنسان السوء. وأكلت الصبر وشربت المر فلم أر شيئاً أمر من الفقر. وشهدت الحروب ولقيت الجيوش وباشرت السيوف وصارعت الأقران، فلم أر قرناً أغلب من المرأة السوء. وعالجت الحديد ونقلت الصخر فلم أر حملاً أثقل من الدين.
ونظرت فيما يذل العزيز ويكسر القوي ويضع الشريف فلم أر أذل من ذي فاقة وحاجة، ورشقت بالنشاب ورجمت بالحجارة فلم أر أنفذ من الكلام السوء يخرج من فم مطالب بحق. وعبرت السجن وشددت في الوثاق وضربت بعمد الحديد، فلم يهدمني شيء مثل ما هدمني الغم والهم والحزن. واصطنعت الإخوان وانتخبت الأقوام للعدة والشدة والنائبة، فلم أر شيئاً أخير من الكرم عندهم، وطلبت الغنى من وجوهه فلم أر أغنى من القنوع، وتصدقت بالذخائر فلم أر صدقة أنفع من رد ذي ضلالة إلى هدى. ورأيت الوحدة والغربة والمذلة فلم أر أذل من مقاساة الجار السوء. وشيدت البنيان لأعز به وأذكر فلم أر شرفاً أرفع من اصطناع المعروف. ولبست الكسى الفاخرة فلم ألبس شيئاً مثل الصلاح. وطلبت أحسن الأشياء عند الناس فلم أر شيئاً أحسن من حسن الخلق. وسررت بعطايا الملوك حباهم فلم أسر بشيء أكثر من الخلاص منهم.
فصل
من حكم شاتاق الهندي من كتابه الذي سماه منتحل الجواهر للملك ابن قمابص الهندي: يا أيها الوالي أتق عثرات الزمان واخش تسلط الأيام ولؤم غلبة الدهر، واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب وللأيام غدرات فكن على حذر وللأقدار بغتات فاستعد لها. والزمان منقلب متولى فاحذر تقلبه، لئيم الكرة فخف سطوته، سريع الغيرة فلا تأمن دولته، واعلم أن من لم يداو نفسه من سقام الآثام في أيام حياته، فما أبعده من الشفاء في دار لا دواء له فيها! ومن أذل حواسه واستعبدها فيما يقدم من خير لنفسه بان فضله وظهر نبله. ومن لم يضبط نفسه وهي واحدة لم يضبط حواسه وهي خمس، وإذا لم يضبط حواسه مع قلتها وذلتها صعب عليه ضبط الأعوان مع كثرتهم وخشونة جانبهم، فكانت عامة الرعية في نواحي البلاد وأطراف المملكة أبعد من الضبط، فليبدأ الملك بسلطانه على نفسه، فليس من عدو أحق من أن يبدأ بالقهر من نفسه، ثم يشرع في قهر حواسه الخمس لأن قوته الواحدة منهن دون صويحباتها قد تأتي على النفس القوية الحذرة، فكيف إذا اجتمعت خمسة أنفس على واحدة؟ واعلم أن لكل واحدة منهن شراً ليس للأخرى فاقهرها تسلم من شرها، وإنما يهلك الحيوان بالشهوات، ألا ترى أن الفراش يكره الشمس فيستكن من حرها ويعجبه ضياء النار فيدنو منها فتحرقه؟ والظبى على نفار قلبه وشدة حرصه ينصت لسماع الملاهي فيمكن القانص من نفسه، وذباب الورد