ثاقبة. وإنما صدر عنهم الشيء اليسير من الحكمة. فنظمت ما ألفيت في كتبهم من الحكمة البالغة، والسير المستحسنة، والكلمة اللطيفة، والطريقة المألوفة، والتوقيع الجميل، والأثر النبيل، إلى ما رويته وجمعته من سير الأنبياء عليهم السلام، وآثار الأولياء، وبراعة العلماء، وحكمة الحكماء، ونوادر الخلفاء، وما انطوى عليه القرآن العزيز الذي هو بحر العلوم، وينبوع الحكم، ومعدن السياسات، ومغاص الجواهر المكنونات.
وقد رأيت أن أختصر لمحة دالة، وإشارة خفيفة. فإن طال فألفاظ بارعة، وآيات معجزة، وهو الهادي من الضلالة والحاوي لمحاسن الدنيا وفضائل الآخرة. ورتبته ترتيباً أنيقاً، وترجمته تراجم بارعة، وحاوية لمقاطع ناطقة بحكمها أو مضمونها، تلج الأذن من غير إذن، وتتولج التامور من غير استثمار. ألفاظها قوالب لمعانيها، ليس ألفاظها إلى السمع بأسرع من معانيها إلى القلب.
فانتظم الكتاب بحمد الله وعونه وأحكمته غاية في بابه، غريباً في فنونه وأسبابه، خفيف المحمل، كثير الفائدة لم تسبق إلى مثله أقلام العلماء، ولا جالت في نظمه أفكار الفضلاء، ولا حوته خزائن الملوك والرؤساء. فلا يسمع به ملك إلا استكتبه ولا وزيراً إلا استصحبه، ولا رئيس إلا استحسنه واستوسده عصمة لمن عمل به من الملوك وأهل الرياسة، وجنة لمن تحصن به من أولى الأمرة والسياسة، وجمال لمن تحلى به من أهل الآداب والمحاضرة، وعنوان لمن فاوض به من أهل المجالسة والمذاكرة. وسميته سراج الملوك، يستغني الحكيم بدراسته عن مصاحبة الحكماء، والملك عن مشاورة الوزراء.
واعلموا، وفقكم الله إن أحق من أهديت إليه الحكم، وأوصلت إليه النصائح، وحملت إليه العلوم، من آتاه الله سلطاناً فنفذ في الخلق حكمه وجاز عليهم قوله. ولما رأيت الأجل المأمون تاج الخلافة، عز الإسلام، فخر الأيام، نظام الدين، خالصة أمير المؤمنين، أبا عبد الله محمد الآمري أدام الله لإعزاز الدين نصره، وأنفذ في العالمين بالحق أمره، وأوزع كافة الخلق شكره، وكفاهم محذوره وضره. قد تفضل الله تعالى به على المسلمين فبسط فيهم يده، ونشر في مصالح أحوالهم كلمته، وعرف الخاص والعام يمنه وبركته. وتقلد أمور الرعية، وسار فيهم على أحسن قضية، متحرياً للصواب، راغباً في الثواب، طالباً سبل العدل، ومناهج الإنصاف والفضل. رغبت أن أخصه بهذا الكتاب رجاء لطف الله تعالى في يوم تجد كل نفس ما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ولتذكر فضائله ومحاسنه ما بقي الدهر:
الناس يهدون على قدرهم لكنني أهدي على قدري
يهدون ما يفنى فأهدي الذي يبقى على الأيام والدهر
فإن العلم عصمة الملوك والأمراء، ومعقل السلاطين والوزراء لأنه يمنعهم من الظلم، ويردهم إلى الحلم، ويصدهم عن الأذية، ويعطفهم على الرعية. فمن حقهم أن يعرفوا حقه، ويكرموا حملته، ويستنبطوا أهله، وما توفيقنا إلا بالله.