فشرب عبد الله وقال: يا غلام احمل إليها عشرة آلاف درهم. فقالت: سبحان الله تسخر بي؟ فقال: يا غلام احمل إليها عشرين ألفاً. فقالت: أسأل الله العافية! فقال: يا غلام احمل إليها ثلاثين ألفاً. فقالت: أف لك! فحمل إليها أربعين ألف درهم. فما أمست حتى كثر خطابها. وقال بعض الرواة: قصد رجل إلى صديق له فدق عليه الباب، فلما خرج قال: ما حاجتك؟ قال: أربعمائة درهم علي دين. فدخل الدار وأخرجها إليه، ثم دخل الدار باكياً، فقالت له امرأته: هلا
تعللت حين شقت عليك الإجابة؟ فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتحتي! وقال أكثم بن صيفي: صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متكأً. وقال الفضيل: ما كانوا يعدون القرض معروفاً. ويروى عن امرأة من المتعبدات أنها قالت لحبان بن هلال وهو في جماعة من أصحابه: ما السخاء عندكم؟ قال: البذل والإيثار. قالت: فما السخاء في الدين؟ قال: أن تعبدي الله سبحانه سخية بها نفسك غير مكرهة. قالت: أفتريدون على هذا جزاء؟ قالوا: نعم لأن الله تعالى وعد على الحسنة بعشرة أمثالها. قالت: فإذا أعطيتم واحدة وأخذتم عشرة فأي شيء سخيتم به؟ وإنما السخاء أن تعبدوا الله متنعمين وتلذذين بطاعته غير كارهين، لا تريدون بذلك أجراً، ألا تستحيون أن يطلع على قلوبكم فيعلم منها أنها تريد شيئاً بشيء؟ وقالت بعض المتعبدات لبعض المتعبدين: أتظن أن السخاء في الدينار والدرهم فقط؟ إنما السخاء في بذل مهج النفوس لله تعالى. وقال أبو بكر الدقاق: ليس السخاء أن يعطي الواجد المعدم، إنما السخاء أن يعطي المعدم الواجد.
وقال الشيخ أبو عبد الرحمن: كان الأستاذ أبو سهل الصعلوكي من الأجواد، لم يكن يناول أحد شيئاً بيده، وإنما كان يطرحه على الأرض فيتناوله الآخذ بيده من الأرض، وكان يقول: الدنيا أقل خطراً من أن ترى يدي من أجلها فوق يد أخرى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم اليد العليا خير من اليد السفلى. وكان يتوضأ يوماً في صحن داره فدخل عليه إنسان، فسأله شيئاً فلم يحضره شيء، فقال: اصبر حتى أفرغ. فصبر، فلما فرغ قال: خذ القمقمة واخرج. فلما خرج وعلم أنه قد بعد صاح وقال: دخل إنسان وأخذ القمقمة! فمشوا خلفه فلم يدركوه وإنما فعل ذلك لأنهم كانوا يلومونه على البذل، وفي معناه قال الشاعر:
ملأت يدي من الدنيا مراراً
فما طمع العواذل في اقتصادي
ولا وجبت علي زكاة مال
وهل تجب الزكاة على جواد؟
وكان أبو مزيد أحد الكرام، فمدحه أحد الشعراء فقال: ما عندي ما أعطيك ولكن قدمني إلى القاضي فادع علي عشرة آلاف درهم حتى أقر لك بها، ثم احبسني فإن أهلي لا يتركوني محبوساً! ففعل ذلك فلم يمسوا حتى دفعوا له عشرة آلاف درهم. وقال زياد بن جرير: رأيت طلحة بن عبيد الله فرق مائة ألف درهم في مجلس وإنه ليخيط إزاره بيده. ولما دخل ابن المنكدر على عائشة رضي الله عنها قال لها: يا أم المؤمنين أصابتني فاقة. فقالت: ما عندي شيء، فلو كانت عندي عشرة آلاف درهم لبعثت بها إليك. فلما خرج من عندها جاءتها عشرة آلاف درهم من عند خالد بن أسيد، فأرسلت بها في أثره فاشترى جارية بألف درهم فولدت له ثلاثة أولاد، فكانوا عباد المدينة، وهم: محمد وأبو بكر وعمر بنو المنكدر. وقال يحيى بن معين: كان جرير بن يزيد في دار المطلب فجاء إنسان يسأله، فقال للغلام: اذهب لجواري فقل لهن من أرادت منهن أن تصبغ ثيابها فلتبعث بها، فجاء الغلام بثياب كثيرة فقال للسائل: خذها! وقال الأصمعي: كانت حرب بالبادية ثم اتصلت بالبصرة