من وجه آخر على أربعة أقسام: فأول أقسامه وأولاها الصبر على ما أمر الله سبحانه وتعالى به، والانتهاء عما نهى عنه. والثاني الصبر على ما فات إدراكه من مسرة أو تقضت أوقاته بمصيبة. والثالث الصبر فيما ينتظر وروده من رغبة يرجوها، أو يخشى حدوثه من رهبة يخافها. والرابع الصبر على ما نزل من مكروه أو حل من أمر مخوف. وجميع أقسامه محمودة بكل لسان وفي كل ملة، وعند كل أمة مؤمنة أو كافرة.
قال أكثم بن صيفي: من صبر ظفر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصبر مطية لا تكبو، والقناعة سيف لا ينبو. وقال أزدشير: الصبر الدرك. وقال عليه السلام: الصبر ضياء وبالصبر يتوقع الفرج. وقال عليه السلام: الصبر ستر من الكروب وعون على الخطوب. وقال ابن عباس: أفضل العدة الصبر على الشدة. وقال عبد الحميد الكاتب: لم أسمع أعجب من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان الشكر والصبر مطيتان لما باليت أيهما ركبت. وقال بعض الحكماء: بالصبر على مواقع المكروه تدرك الحظوة. وقال ابن المقفع في كتاب التتمة: الصبر صبران فاللئام أصبر أجساماً والكرام أصبر نفوساً، وليس الصبر الممدوح صاحبه أن يكون قوي الجسد على الكد والعمل فإن هذا من صفات الحمير، ولكن أن يكون للنفس غلوباً وللأمور محتملاً، ولجاشه عند الحفظة مرتبطاً.
وفي منثور الحكم: من أحب البقاء فليعد للمصائب قلباً صبوراً، وقال بزرجمهر: لم أر ظهيراً على تنقل الدول كالصبر، ولا مذلاً للحساد كالتجمل ولا مكسباً للإجلال كتوقي المزاح، ولا مجلبة للمقت كالإعجاب ولا متلفة للمروءة كاستعمال الهزل في مواضع الجد. فأما القسم الأول وهو الصبر على امتثال ما أمر الله تعالى والانتهاء عن محارمه، فيه يصح أداء الفرائض واستكمال السنن ويدخل في قوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزمر: ١٠) . ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. وقال الجنيد: المسير من الدنيا إلى الله سهل هين على المؤمن وهجر الخلق في حب الله شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر مع الله أشد. وسئل عن الصبر فقال: تجرع المرارة من غير تعبيس. وكان حبيب بن أبي حبيب إذا قرأ هذه الآية:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}(صّ: ٤٤) . يبكي ويقول: واعجباً أعطي وأثني عليه! وقال الخواص: الصبر الثابت على أحكام الكتاب والسنة. وقال عبد الواحد بن زيد: من نوى الصبر على طاعة الله تعالى صبره الله تعالى عليها وقواه، ومن عزم على الصبر عن معصية الله تعالى أعانه الله تعالى وعصمه منها. وقال عمر بن عبد العزيز للقاسم بن محمد: أوصني! وقال القاسم: عليك بالصبر في مواضع الصبر. وقال الحسن: الصبر صبران: صبر عند المصيبة وصبر عند ما نهى الله عنه، وهو الأفضل. وإنما يختلف الصبر بالخوف والرجاء، من خاف شيئاً صبر على الفرار منه، وصبر عند كراهية ما يحذر من ضرره، ومن رجا شيئاً صبر على طلبه ليظفر به. وأما القسم الثاني وهو الصبر على ما فات إدراكه من مسرة أو نقضت أوقاته من مصيبة، فإنه يتعجل به الراحة مع اكتساب المثوبة، فإن صبر طائعاً استراح وأحرز الثواب، وإن لم يصبر حمل الهم والوزر.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للأشعث بن قيس: إن تجزع فقد استحق ذلك منك بالرحم، وإن تصبر ففي ثواب الله تعالى خلف من ابنك، إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور؛ ونظمه أبو تمام فقال: