للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال علي في التعازي لأشعثٍ

وخاف عليه بعض تلك المآثم:

أتصبر للبلوى عزاءً وحسبةً

فتؤجر أم تسلو سلو البهائم؟

خلقنا رجالاً للتجلد والأسى

وتلك الأيامى للبكا والمآتم!

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل: إن صبرت مضى أمر الله وكنت مأجوراً، وإن جزعت مضى أمر الله وكنت مأزوراً. وقال الحسن: والله لو كلفنا الجزع ما قمنا به، فالحمد لله الذي آجرنا على ما لو نهانا عنه لصرنا إليه. وعن هذا قالت الحكماء: الجزع أتعب من الصبر، ففي الجزع التعب والوزر وفي الصبر الراحة والأجر. ولو صور الصبر والجزع لكان الصبر أحسن صورة وأكرم طبيعة، وكان الجزع أقبح صورة وأحرد طبيعة، ولكان الصبر أولاهما بالغلبة لحسن الخلقة وكرم الطبيعة. وقال بعض الحكماء: لو وكل الناس بالجزع للجئوا إلى الصبر. وقال شبيب بن شيبة المهدي: إن أحق ما صبرت عليه ما لم تجد سبيلاً إلى دفعه. وأنشدوا:

إذا تصبك مصيبة فاصبر لها

عظمت مصيبة مبتلى لا يصبر

وقال آخر:

وعوضت أجراً من فقيدك لا يكن

فقيدك لا يأتي وأجرك يذهب

وقال بعض الحكماء: ليس بمجموع له الرشد من تتابع التلهف على فائت أو أكثر الفرح عند مستظرف. وقال حكيم: إن كنت جازعاً على ما يفلت من يديك فاجزع على ما لا يصل إليك، ومن أيقن أن كل فائت إلى انقضاء حسن عزاؤه عند نزول القضاء. وقال الشاعر:

إذا طال بالمحزون أيام صبره

كساه ضيا طول المقام على الصبر

ولا شك أن الصبر يحمد غبه

ولكن إنفاقي عليه من العمر

وقال بعض القدماء: الصبر على أربع مراتب: الشوق والإشفاق والزهادة والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات، ومن راقب الموت قصر عن الخطيئات. وأما القسم الثالث فهو الصبر فيما ينتظر وروده من رغبة يرجوها، أو يخشى حدوثه من رهبة يخافها، فبالصبر والتلطف يدفع عادية ما يخاف وينال نفع ما يرجو. قال النبي صلى الله عليه وسلم: انتظار الفرج بالصبر عبادة. وقال محمد بن بشر:

إن الأمور إذا انسدت مسالكها

فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا

لا تيأسن وإن طالت مطالبه

إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته

ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ!

وقال بعض الرواة دخلت مدينة يقال لها ذمار، فبينما أنا أطوف في خرابها إذ رأيت مكتوباً على قصر خراب:

يا من ألح عليه الهم والفكر

وغيرت حاله الأيام والغير

أما سمعت بما قد قيل في مثل

عند الأياس فأين الله والقدر

وقال غيره:

نم للخطوب إذا أحداثها طرقت

واصبر فقد فاز أقوام بما صبروا

فكل ضيق سيأتي بعده سعة

وكل صبر وشيك بعده ظفر

<<  <   >  >>