وتحته مكتوب بخط آخر: لو كان كل من صبر أعقب الظفر صبرنا، ولكنا نجد الصبر في العاجل يفني العمر ويدني من القبر، وما كان أصلح الذي العقل موته وهو طفل والسلام. قلت: لو رأيته لكتبت تحته: في الصبر استعجال الراحة وانتظار الفرج وحسن الظن بالله تعالى وأجر بغير حساب، وفي الجزع استعجال الهم ونهك البدن واستشعار الخيبة وسوء الظن بالله وحمل الإثم مع العقوبة، وما أحسن لذي اجتناب هذا والسلام! وقال بعض العارفين: من صبر نال المنا ومن شكر نال النعماء قال الشاعر:
الصبر مفتاح كل خير
وكل صعب به يهون
اصبروا إن طالت الليالي
فربما ساعد الحزون
وربما نيل باصطبار
ما قيل هيهات لا يكون!
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه وعوضه صبراً إلا كان ما عوضه أفضل مما انتزعه منه. وقرأ:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزمر: ١٠) . ويروى أن جارية كانت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تتصرف في حوائجه فكلما خرجت تصدى لها خياط كان بقرب دار علي رضي الله عنه ويقول لها: إني لأحبك في الله تعالى. فلما كثر منه ذلك شكته إلى علي رضي الله عنه قال لها علي: إذا قال لك مرة أخرى فقولي له: والله إني لأحبك فيه فما الذي تريد؟ فقال لها ذلك، فقالت له: والله إني أحبك فيه. فقال لها: تصبرين وأصبر حتى يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب. فرجعت الجارية وأخبرت مولاها فدعا علي رضي الله عنه الخياط فوجد أمره مستقيماً على الصحة، فوهبها له مع نفقة يستعين بها. وقال رضي الله عنه: الصبر كفيل بالنجاح والمتوكل لا يخيب ظنه، والعاقل لا يذل بأول نكبة ولا يفرح بأول رفعة. وكان يقال: الصبر سلامة والطيش ندامة: وأما القسم الرابع وهو الصبر على ما نزل من مكروه أو حل من أمر مخوف، فيه تنفتح وجوه الآراء وتتوقى مكائد الأعداء. قال الله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا}(الأعراف: ١٣٧) . وقال الله تعالى:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}(النحل: ١٢٧) . وقال تعالى:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(لقمان ١٧) . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن استطعت أن تعمل لله تعالى بالرضا في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تفعل خيراً كثيراً. واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسراً. وقد قال علي رضي الله عنه: الصبر مناضل الحدثان والجزع من أعوان الزمان. وقال الحكيم: بمفتاح عزيمة تفتح مغاليق الأمور. وأنشدوا:
إنما أجزع مما أتقي
فإذا حل فما لي والجزع؟
ولما حبس أبو أيوب خمسة عشرة سنة ضاقت حيلته وقل صبره، فبعث إلى بعض إخوانه يشكو طول حبسه وقلة صبره، فرد عليه جواب رقعته: