وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وأُبيّ، وغاب عن عمر، وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سلمة ولم يعلمه عمر وزيد بن ثابت، وكان حكم تحريم المُتعة والحُمُر الأهلية عند علي وغيره، ولم يعلمه ابن عباس، وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما، وغاب ذلك عن طلحة وابن عباس وابن عمر، وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر بذلك فذكره فأجلاهم، ومثل هذا كثير. فمضى الصحابة - رضي الله عنهم - على هذا.
ثم خَلَفَ بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا، فإنما تفقَّهوا مع من كان عندهم من الصحابة، فكانوا لا يتعدَّون فتاويهم، لا تقليدًا, ولكن لأنهم أخذوا وروَوْا عنهم، إلا اليسير مما بلغهم عن غير مَن كان في بلادهم من الصحابة - رضي الله عنهم - كاتِّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر، واتِّباع أهل مكة فتاوى ابن عباس، واتَّباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن مسعود، ثم أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار؛ كأبي حنيفة وسُفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جُريج بمكة، ومالك وابن الماجِشون بالمدينة، وعثمان البَتِّي وسوَّار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجرَوْا على تلك الطريقة، من أخذ كل واحد من التابعين من أهل بلده وتابعوهم عن الصحابة - رضوان الله عليهم - فيما كان عندهم، وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم، وهو موجود عند غيرهم ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها.