للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المشكاوات "أي الدخلات الرأسية العميقة المتعاقبة على مسافات متساوية" في واجهات المباني اللبنية، وفكرة تصوير أبطال أسطوريين يفصلون بين حيوانات مفترسة ويخضعونها، وفكرة استخدام أختام أسطوانية صغيرة منقوشة للختم بها على سدادات الأواني الفاخرة وربما على الوثائق أيضًا، وفكرة نقش وتصوير حيوانات خرافية ذات أعناق طويلة مقوسة لغرض الزخرف أو للتعبير عن الأساطير. واستنتج بعض أولئك الباحثين من صور هذا التشابه استنتاجات شتى لا يخلو بعضها من إسراف، وقد ناقشناها بتفصيل في كتابنا الأول عن حضارة مصر القديمة وآثارها "ص٢٦٢ - ٢٦٧"، وانتهينا من مناقشتها إلى أن الأساليب والأفكار السابقة وإن تشابهت من حيث دواعي نشأتها في كل من البلدين، إلا أنها تمايزت في كل منهما في طريقة تنفيذها وفي أغراضها وفي مجالات استعمالها، مما يوحي بأن كلًّا منهما قد نمت وتطورت في أحضان حضارة أهلها المحلية وسايرت تقاليدهم الخاصة في الصناعة والزخرف والتعبير، بغير ضرورة إلى الظن بتأثير لازم من أحد البلدين فيها على البلد الآخر، وإن لم يحل هذا إطلاقًا دون افتراض استمرار الصلات الحضارية العادية بين الطرفين بطرق مباشرة أو عن طريق وسطاء، أو افتراض تقليد بعض الصناع والفنانين في كل من البلدين زخارف البعض الآخر تقليدًا شخصيًّا حرًّا.

وانقضى عصر بداية الأسرات بمظاهره الحضارية حوالي عام ٢٧٨٠ق. م. بعد انتقال أزمة الحكم من أسرته الثانية إلى فرع حاكم جديد يتصل بها برابطة الدم والنسب، وانقضت بعده قرون طويلة ظل المصريون خلالها يردون إليه بعض معارفهم وعلومهم القديمة، فتضمنت بردية طبية من الدولة الحديثة فصلًا طبيًّا فيها لردته إلى عهد الملك دن "الذي ذكرته باسم سمتى"١. وذكرت كتب الموتى أن فصلًا منها وجد في زمن قديم في البهو الكبير لقصر الملك نفسه٢. وذكر المؤرخ المصري مانيتون أن الملك جر "الذي ذكره باسم أثوثيس" ألف كتابًا في التشريح وكان بارعًا في الطب٣. وذكر المؤرخ ديودور الصقلي أن الكهان أخبروه بأن منى كان أول من علم الناس أسلوب الحياة المهذبة وطقوس العبادة وأرشدهم إلى فوائد البشنين وكيف يصنعون الخبز منه٤.

وليس من ضرورة بطبيعة الحال إلى الأخذ بحرفية هذه الأخبار، فقد يكون الغرض منها هو رغبة أصحابها المصريين في صبغ معارفهم بصبغة القداسة عن طريق ردها إلى أصول قديمة عريقة. ولكن حسبنا منها أن ذكريات عصر بداية الأسرات ظلت ماثلة في أذهان المصريين، يعتزون بها وينسجون القصص والأساطير حولها.


١ Der Grose Medizinisch Papyrus Des Berlin Museums, XVI, ١ F.
٢ B. D., Ch., Cxxx, "Zaes, ١٨٥٧, ٥٤".
٣ Maneto, In Cory, Ancient Fragments ...., ٨٩٤.
٤ Diosorus, I, ٤٥.

<<  <   >  >>