للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رابعًا: النكسة مع الغزو الفارسي والأسرة السابعة والعشرين ٥٢٥ - ٤٠٤ق. م

تحددت مقادير الشرق الأوسط بميلاد الدولة الفارسية الهخامنشية في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وهي دولة أراد زعماؤها أن يثبتوا لمواطنيهم بعقليتهم القبلية الجبلية أنهم يفوقون أسلافهم ذوي الميراث الحضاري الطويل من عيلاميين وماذيين، قوة واقتدارًا في الداخل وفي الخارج، وصمموا على بسط نفوذ دولتهم في الاتجاهات الأربعة، مستغلين فتوتهم وشيخوخة جيرانهم، فخرجوا بحملات مسعورة ولكنها قوية منظمة تحت قيادة ملكهم قورش، يدقون الأرض دقًّا عنيفًا حتى بلغوا آسيا الصغرى واكتسحوا دولة ليديا التي كانت شيئًا عظيمًا في نظر إغريق الشرق والغرب معًا، ثم عادوا فطووا بابل ذات التراث المجيد "راجع تاريخ العراق"، وأدركوا من ثم سهولة إخضاع العالم المحيط بهم والذي مزقته المنافسات والحروب المتصلة، لحكومة عالمية واحدة، هي حكومتهم بطبيعة الحال. ومات ملكهم قورش عام ٥٢٩ق. م قبل أن يحقق حلمه بفتح مصر التي كانت هي وبلاد الإغريق والفرس الدعائم الدولية الثلاثة حينذاك. وتولى تحقيق هذا الأمل ولده قمبيز، وعندما بدأ مشروعه لغزو مصر من حدودها الشمالية الشرقية عاونته الظروف فاستسلمت له بلاد الشام بدويلاتها الكثيرة. ووضعت فينيقيا أسطولها الكبير تحت طاعته، وتخلت قبرص عن التعاون مع مصر، وفقدت مصر ملكها المحنك أحمس وخلفه على عرشها ملك سيئ الطالع وهو بسماتيك الثالث "عنخ كانرع"، ثم كان من كبار قادة جيشها قائد من المرتزقة الإغريق يدعى فانيس خانها وهرب إلى قمبيز وقاد له جيشه عبر مسالك الصحراء الصعبة المؤدية إليها١، كما كان فيها أعداد من اليهود الذين اعتبروا أباه قورش مسيحهم المنتظر بعد أن فك إسار اليهود المنفيين في بابل وما حولها وأعادهم إلى أورشليم وسمح لهم بتعميرها من جديد، ولهذا كانوا على استعداد لأن يذللوا الصعاب في سبيله. ومع هذه الظروف قاومت مصر جهد الاستطاعة وخاضت بقيادة ملكها التعس بسماتيك معركة عنيفة ضد الفرس في الفرما "بلوزيوم" على الحدود الشمالية الشرقية في عام ٥٢٥ق. م، ورأى المؤرخ هيرودوت آثار المعركة بعد نحو ثلاثة أرباع القرن من وقوعها فشهد بضراوة ما حدث فيها، وسجل ملاحظة طريفة ذكر فيها إنه رأى جماجم الفرس من ناحية وجماجم المصريين في ناحية عند مصب فرع بلوزيوم، ولاحظ أن جمجمة الفارسي يمكن أن تصدعها بحصاة "على الرغم مما هو معروف عن ضخامة الرأس الآرية"، بينما لا تنكسر جمجمة المصري إلا بضربة حجر. ولم يثبت الجيش المصري طويلًا أمام الطوفان الفارسي فتراجع إلى العاصمة منف، ولكنها سقطت هي الأخرى وأسر ملكها بسماتيك الثالث وقد جامله قمبيز في بداية أمره وأطلق سراحه ولكن بسماتيك أبت عليه وطنيته إلا أن يستأنف المقاومة، ولما انكشف أمره انتحر٢. وخضعت مصر للفرس


١ Herodotus, Iii, ٤.
٢ Ibid. Iii, ١٣-١٥.

<<  <   >  >>