أسلفنا أن مواطن الاستقرار الزراعية الأولى لم تكن أكثر من قرى متواضعة متفرقة على مناطق الحواف لا ندري عن تصريف الأمور فيها إلا ما دلت عليه ظاهرة تنظيم بعض المساكن في مرمدة من انفعال أهلها بالوعي الجماعي واحتمال خضوعهم لسلطة في القرية استحبت التنظيم وأوصت بتنفيذه. وما دلت عليه مساكن حلوان القديمة من اشتراك أهلها في تمهيد منطقة مساكنهم فوق ربوة يأمنون فيها على أنفسهم من أخطار السيول ويأمنون فيها من غارات جيرانهم. وما دلت عليه مطامير الفيوم من اطمئنان أهلها إلى تجميع محاصيلهم في منطقة واحدة يتعاونون في حراستها أو يعهدون بحراستها إلى رئيسهم وأعوانه. ثم ما دلت عليه مخازن الغلال الجماعية في قرية المادي من احتمال وجود سلطة في القرية أشرفت على تموينها وحمت محاصيلها.
ولم يكن من شأن القرى المصرية الأولى أن تستمر متفرقة عهودًا طويلة، وإنما المرجح أنه شجعها على التقارب من بعضها البعض وانضمام بعضها إلى بعض عوامل المصالح المشتركة التي تفرضها البيئات الزراعية على أهلها، وعوامل الرغبة في تبادل المواد الأولية التي قد تتوفر في منطقة دون أخرى، فضلًا عن تبادل المصنوعات النامية التي قد تجود في قرية أكثر مما تجود في أخرى، ومناسبات الزواج والمصاهرة في بيئة قلت فيها موانع الاتصالات ولم يظهر فيها ما يدل على الطبقية المانعة أو العصبيات الغالية، وعوامل التحالف والتكاتف لدرء خطر عدو قريب أو بعيد، وعوامل الرغبة في بسط النفوذ التي تراود الجماعات القوية وتدفعها إلى ضم الجماعات القريبة منها تحت زعامتها ثم عامل الاشتراك في تقديس مظهر إلهي معين يتضح أثره في منطقة واسعة تشترك في سكناها أكثر من جماعة واحدة.
وليس من نصوص ولا مناظر قديمة تصور نتائج العوامل السابقة في حياة أهلها واحدة فواحدة، وكل ما يمكن تقديمه بشأنها هي مجموعة احتمالات منطقية توائم البيئة المصرية ولا تنبو عن ذكريات العصور التاريخية عنها. فمن الاحتمالات المقبولة لتفسير تحول الجماعات المصرية القديمة من الحياة القروية إلى الحياة المدنية، أنه ترتب على انضمام بعض القرى إلى بعض أن نشأ عدد من الأقاليم ذات الحدود الاعتبارية والحدود الطبيعية، ثم تهيأ للفريق الأقوى في كل إقليم أن يجعل قريته الكبيرة حاضرة لإقليمه مادامت تتوفر لها الحصانة الطبيعية والمقومات المادية والكثرة العددية، كما تهيأ له أن يسود كلًّا من حاكمه ومعبوده على بقية الجماعات المشتركة معه في نطاق إقليمه، وبهذا أصبح لكل إقليم حاكمه وعاصمته، ومعبوده الأكبر، وأصبح له رمزه الذي