حضارة بلاد النهرين القديمة هي أقرب ما يقرن بحضارة النيل، من حيث القدم والثراء والطابع المتميز واستمرار التطور في مجالات الفكر والمادة. وكان فيما أتت بقصص التوراة عن أهلها من الآشوريين والبابليين وعلاقاتهم بفلسطين والعبرانيين، ثم ما سجله الرحالة والمؤرخون الكلاسيكيون عن أمجاد هؤلاء وهؤلاء، ما أثار تطلع عدد من الرحالة والباحثين بل والمغامرين الأوروبيين في العصر الحديث، إلى محاولة كشف النقاب عن آثار بلاد العراق وتاريخها. وبدأ اهتمامهم بكتسي بطابع الجدية منذ أواخر القرن الثامن عشر، حين استرعت النصوص المسمارية الغريبة أنظار الرحالة واللغويين، وعمل عدد منهم على تصويرها وعمل تخطيطات لها، الأمر الذي مهد لمحاولات أولية لقراءتها ومعرفة رموز كتابتها، منذ أوائل القرن التاسع عشر. وقد أثمر الاتجاهات معًا منذ نجح رولنسن H.C.Rawlinson في نقل نصوص بهستون نقلًا سليمًا وحاول قراءتها، وهي نصوص سجلت انتصارات الملك دارا الأول بكل من اللغات: الفارسية القديمة والإلامية أو العيلامية العتيقة، والبابلية السامية، مما يسر عقد المقارنات بين ألفاظ هذه اللغات والاستعانة بالواحدة منها في فهم مترادفاتها الأخرى، مع مقارنة الفارسية منها بنصوص أخرى في إصطخر "برسوبوليس" عاصمة الفرس القديمة. وبلغت هذه المحاولة ومحاولات أخرى تشبها بواكير النجاح منذ أواسط القرن التاسع عشر، وأدى هذا النجاح بدوره، مع نشاط الرحالة الأوروبيين في وصف الآثار القائمة وتصويرها إلى تشجيع المتاحف العالمية والجمعيات الثرية على تبني عمليات الكشف عن الآثار في العراق، وفتح الأبواب لتقبل ما يحصل الأفراد عليه من الآثار في نظير مكافآت سخية. وقد تركز الاهتمام في بداية أمره على شمال العراق على أمل البحث عن آثار مدن نينوى وأشور ونمرود ذوات الشهرة التاريخية الواسعة. وبدأ هذا العمل كالعاعدة نفر يوصفون بالمغامرين أكثر مما يوصفون بالباحثين، ومنهم Paul Emile Botta الذي تنقل بنشاطه السريع من تلال نينوى إلى تلال خورساباد. ثم A. H. Layard الذي تنقل بدوره بين نمرود وبين نينوى، وكان لما كشفه هذا وذاك، من قصور الملوك الآشوريين العظام ومقتنايتها دوي عالمي كبير وتشجيع لغيرهما على سلوك نفس السبيل. وقد عمل رعيلهم الأول هذا في أرض بكر وبوسائل بسيطة وبخبرات متواضعة، وكانوا يهدفون أساسًا إلى استخراج أكبر عدد من الآثار الفنية والثمينة في أقصر وقت مستطاع وبأقل كلفة ممكنة، حتى يشبعوا رغبتهم في الشهرة والمال، ويشبعوا نهم المتاحف الأوروبية وأصحاب المجموعات الخاصة. وكانوا بوسائلهم هذه أكثر جناية على أثار العراق من زملائهم الأجانب المغامرين الذين عملوا في مصر، فقد كفل للآثار المصرية نصيبها من المنعة تشييد مبانيها الرئيسية بالحجر، وتماسك موادها الأخرى نتيجة لصيانتها في رمال الصحراء وفي مناخ جاف، وذلك على العكس من آثار العراق التي شيدت غالبية مبانيها من اللبن والآجر، وقلت مناعة موادها الأخرى نتيجة لرطوبة أرضها، مما كان يتطلب من الباحثين عنها دراية كافية بوسائل التنقيب عن الآثار ووقايتها وحفظها، وهو ما لم يتوافر