لأوائلهم، الأمر الذ أفضى إلى تصدع وتفتت كثير من الآثار الصغيرة التي اكتشفوها بمجرد تعرضها للهواء والحرارة الخارجية١.
وشهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر بداية اهتمام الدراسات الأثرية بالنصف الجنوبي من بلاد النهرين، وكان ذلك إيذانًا بالكشف عن حضارات السومريين والأكديين، في مدن كيش وأور والوركاء ونفر ولجش ونيبور. ثم اتسعت البحوث الأثرية في جنوب العراق وشماله معًا في القرن العشرين واتسم بعضها بالطابع العلمي الدقيق في الكشف عن الآثار وقراءة النصوص وتحليلها، وصحبتها اهتمام مماثل بآثار فجر التاريخ في العراق الجنوبي، في مثل العبيد وجمدة نصر، وفي العراق الشمالي في مثل تل حلف وجسونة ... الأمر الذي جعل كل فترة من فترات الحضارات العراقية الطويلة الممتدة من الدهر الحجري القديم الأسفل حتى نهاية العصر الكلداني الأخير، جديرة بدراسة مستقلة مستفيضة.
وإذا كان ثمة ما يضاف إلى هذا التمهيد، فهي ملاحظة عابرة تعترض كل من يكتب باللغة العربية عن حضارة العراق القديم وما سواه من أقطار الشرق القديم، وتتمثل في التقيد أحيانًا بكلمات ومسميات ذات جرس أجنبي، واستخدامها بلفظها أو بمعناها، اعتمادًا على شيوعها ونظرًا لسبق الباحثين الأجانب في دراسة حضارة هذا الشرق وكثرة مؤلفاتهم عنه. وذلك مثل لفظ ميزوبوتاميا Mesopotamia الإغريقي الأصل الذي تترجمه كثير من الكتب العربية بمعنى "بلاد ما بين النهرين"، وهي ترجمة أمينة، لولا أنه ينبغي أن يقدر إلى جانبها أن مواطن الحضارة العراقية القديمة لم تقتصر على ما بين النهرين، وإنما امتدت إلى ما حول النهرين أيضًا. بل إن طائفة من أقدم المواطن الأثرية مثل العبيد وإريدو وأور، قامت غرب الفرات وليس فيما بينه وبين دجلة، كما قامت إشنونا وتل أسمر ونوزي شرق دجلة وليس فيما بينه وبين الفرات.
وفطن الإغريق أنفسهم إلى قصور لفظ ميزوبوتاميا، فأضاف بعضهم إليه لفظ بارابوتاميا Parapotamia أي ما وراء النهرين أو ما حولهما. وهكذا يحسن فيما نرى أن نقول "بلاد النهرين" وهي التسمية التي استخدمناها في هذا الكتاب، وليس تسمية "بلاد ما بين النهرين" الشائعة. وقد استخدمت كتب عربية أخرى تعبير "بلاد الرافدين""وحضارة الرافدين"، وهو تعبير لطيف، لولا أن روافد النهر تختلف عن النهر ذاته فيما هو معروف.
وما يجري على هذا اللفظ يجري على ألفاظ أخرى سامية قديمة نكتبها مضطرين عادة بمنطوقها الذي حرفه كتبة التوراة وحرفه المؤرخون الكلاسيكيون، مثل سرجون وسينا حريب وإسرهدون ونبوخذ نصر ... ، والعلة في هذا هي نفس العلة في الملاحظة السابقة، أي سبق الأجانب عنا في دراسة تاريخ العراق القديم، واستخدامهم لهذه الألفاظ في مؤلفاتهم الكثيرة، مما أكسبها شهرة وشيوعًا، وجعل التخلي عنها أمرًا غير مألوف، وإن أمكن التخفف منها عن طريق استخدام الأصول القديمة الصحيحة معها جنبًا إلى جنب.
١ G.E. Daaiel, A Hundred Years Of Archgeologly, ١٩٤٩.