للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[في شبه الجزيرة العربية]

حمت ضخامة الكتلة الصحراوية الكبيرة في شبه الجزيرة العربية أهلها من أخطار الغزوات الكثيفة، فكفلت لهم نعمة الاستقلال آمادًا طويلة، وساعدت على نقائهم الجنسي واللغوي إلى حد مناسب، وجعلتهم وسطاء لا غنى عن الاستعانة بهم في عمليات الوصل التجاري البري بين سواحل المحيط الهندي وسواحل شرق إفريقيا من ناحية، وبين ضفاف الفرات في العراق وسواحل البحر المتوسط في الشام وحدود مصر الشمالية الشرقية من ناحية أخرى. وربما أسبغت عليهم طبيعتهم الطلقة الرحبة القاسية في الوقت نفسه شيئًا من صفاء الذهن وتوقد القريحة، وإن لم يصلنا للأسف من آثارها الحضارية الأولى حتى الآن غير قليل مما أثر عن عشية ميلاد المسيح وصبحه بالنسبة لمناطقهم الجنوبية، وقليل مما أثر عن عشيرة الإسلام وصبحه بالنسبة لمناطقهم الشمالية.

ولكن ضخامة الكتلة الصحراوية الجافة في شبه الجزيرة عملت في الوقت ذاته على تضييق آفاق الاستثمار القديمة أمام أهلها فيما أقامت شعوب الهلال الخصيب القريبة منها حضاراتها المادية عليه، سواء من حيث وفرة الإنتاج الزراعي ورواج الصناعة، أم من حيث اتصال العمران وكثرة السكان. كما قللت تفاعلهم مع هذه الحضارات تفاعلًا إيجابيًّا عميقًا، وإن لم تحرمهم تمامًا من الاحتكاك بها والاستفادة منها استفادة متقطعة عن طريق مناطق الحواف الحدودية وعن طريق الاتصالات التجارية.

وفرضت الظروف الطبيعية لشبه الجزيرة على حياة أهلها نصيبًا من التنوع. وترتب هذا التنوع على ضخامة مساحتها وتباين تضاريسها واختلاف مواقع أطرافها وبطء الاتصالات بينها ثم تفاوت نوعية فرص الاستفادة التي تهيأت لكل جماعة من جماعاتها. فشبه الجزيرة العربية من أكبر أشباه الجزر القارية مساحة كما هو معروف، وقد توزعت فيها تلال عادية الارتفاع وجبال شاهقة الارتفاع. وامتدت حولها سواحل صخرية يصعب الانتفاع بها وسواحل أخرى سهلية يتيسر استغلالها. وانتشرت في بعض أماكنها حرار وبراكين صغيرة ظلت ترمي بالحمم ويصدر عنها نيران ودخان حتى ظهور الإسلام، وشغلت أواسطها صحراويات شاسعة مترامية تنوعت هيئات كثبانها وأشكال رمالها. كما توزعت فيها مناطق تنزلها السيول العنيفة، وأخرى خصبة

<<  <   >  >>