للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كما خضعت غيرها من أمم الشرق، وإن لم يعفها هذا من وزر كبير بعد أن فتحت أبوابها للمرتزقة من هنا وهناك وجعلتهم دعامة جيشها.

وبلغ من تقدير قمبيز لضخامة البلد الذي سيطر عليه أن أقام في مصر أكثر من ثلاثة سنوات صحبها في بدايتها ما يتأتى عادة من الغزاة، من تخريب ونهب ومصادرات وغرامات، ولم تسلم المعابد من كل هذا فتخرب أغلبها وأنقصت مخصصاتها إلى النصف وعسكر فيها جنود الاحتلال من كل ملة ونحلة١. ثم هدأت شرة الغزاة وتفتحت أمام قمبيز في مصر آمال جديدة ناحية الغرب والجنوب، وخطط لثلاثة مشروعات فشلت كلها، فقد مهد لغزو قرطاجة "تونس" الفينيقية الأصل ذات الشهرة التجارية وتعلل بأن استقل هداياها وهدايا قرنيه إليه، وأراد أن يستعين بالأسطول الفينيقي على فتحها، ولكنه فشل ولعله لم يجد الإخلاص والاستجابة الفعالة من أبناء عمومتها الفينيقيين. وأرسل حملة إلى سيوة أحد مراكز آمون الكبرى ووحيه ذي الشهرة الواسعة، ليتم بها فتح الواحات وربما ليفتح بها طريقًا إلى ما بعدها عن طريق البر، فابتلعت الغرود والعواصف الرملية الكثيفة حملته. وقاد حملة إلى نباتا طمعًا في ذهب النوبة وليفتح بها طريقًا إلى السودان ولكنها فشلت من قلة الزاد وصعوبة الطريق ومقاومة أهل نباتا٢. وكان من الطبيعي أن يرى المصريون هذا الفشل المثلث انتقامًا من السماء، وقد أحاطوه بأساطير وجدت آذانًا صاغية من الإغريق أعداء الفرس، فروى هيرودوت أن قمبيز أصابته لوثة من جزاء فشله وأنه عندما رجع من حملة النوبة إلى منف وجد أهلها يحتفلون بمولد أبيس جديد فظنها فرحة الشماتة به وقتل كبارهم وطعن أبيس بخنجره وأمر بإخراج جثة أمازيس الصاوي حبيب قومه, واستنزل اللعنات عليها ثم حرقها. وقيل إن ما أثار حفيظته على واحدة سيوة هو أن وحي آمون فيها كان قد تنبأ بفشله سلفًا. ثم روى هيرودوت أن الرجل جن لا سيما بعد أن بلغه نبأ مؤامرة فارسية للاستيلاء على عرشه، فسارع بالعودة إلى بلده، وهنا كان لا يزال للانتقام الإلهي بقية، فحدث خلال سفره في سوريا أن وخز نفسه بسلاحه في فخذه في موضع مماثل للموضع الذي طعن فيه أبيس المقدس، فتسمم الجرح وأودى به٣. وقد تكون أمثال هذه الأساطير التي تتمسح في القدر وفي انتقام الآلهة، هي حيلة الشعوب المغلوبة على أمرها، ولكن الخسارة الكبرى التي خسرها قمبيز فعلًا كانت انتقال عرشه من فرعه إلى فرع آخر من أسرته بعد معارك دامية انتهت بتولي دار الأول في عام ٥٢١ق. م.

وكان دارا "دارايا فاهوش" ذا شخصية حربية وإدراية وتشريعية دعت أتباعه وأعداءه معًا إلى تلقيبه بلقب "الملك العظيم". وقد أصاب مصر من تنظيماته أنه أدرك أن أمورها لن تستقر إلا في ظل قوانينها الخاصة


١ Posener, La Premiere Domination Perce En Egypte, ١٩٣٦; Cowley, Aramaic Papyri Of The Fifth Century B.C., No. ٣٠ ١. ١٤.
٢ Herodotus, Iii, ١٧, ٢٥, ٢٦; Wainwright,K Jea, ١٩٥٢, ٧٥ F.
٣ Herodotus, Iii, ١٦, ٢٧-٢٩ ١٦٧; Plutarch, De Iside, ٤٤; Posener, Op. Cit., ١٧٣ F.
ويرى فيدمان ودريوتون وبوزنر أن كل ما يعرف عن موقف قمبيز إزاء أبيس هو تأخير دفنه نحو خمسة عشر شهرًا، لأسباب غير معروفة، وهي فترة أطول بكثير مما تتطلبه عملية تحنيطه.

<<  <   >  >>