للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فانطلق بفيلق آمون في سرعة جنونية وترك فيلق رع يلحق به، وخلف جنود الفيلقين الآخرين على مبعدة منه يسيرون على مهل ليحموا ظهره ويبلغوا ساحة الحرب في راحة مناسبة. وعندما عبر نهر العاصي اشتد عيونه على جاسوسين آخرين أقرا لهم بالواقع وهو أن الحيثيين تواروا بجيوشهم شرق قادش ليداهموا المصريين على غرة بمشاتهم وعرباتهم. وشعر رمسيس بالخطر يوشك أن يحيط بجيشه، فأمر وزيره بأن يستعجل فيلق بتاح، فأرسل الوزير فارسين على متني جوادين سريعين ولحق بهما بعربة، ثم خاطر رمسيس برجاله، وتقدم بفيلق آمون إلى الموضع الذي ظن أن أعداءه عسكروا فيه، ولكن الحيثيين كانوا قد بدلوا مراكزهم بمهارة، وانفلتوا إلى جنوب المدينة وعبروا مخاضة النهر، وتربصوا بفيلق رع حين اقترب منهم في سبيله إلى فيلق آمون، وباغتوه فجأة فشطروه فريقين، فريقًا عاد من حيث أتى وفريقًا أسرع رجاله إلى معسكر الفرعون واحتموا بفليقه. وفي غمرة الاضطراب الذي أشاعوه في المعسكر بدخولهم المفاجئ، لحق الأعداء بهم وفردوا أجنحتهم الواسعة حولهم وكان في كل عربة من عرباتهم الحربية ثلاثة رجال، فتصدى المشاة المصريون لهم وانتزعوا بعضهم من عرباتهم وقاتلوهم بالحراب والسيوف، ولكن العدو كان كثيرًا عليهم، والمفاجأة أذهلت عددًا منهم، وحينذاك لم يجد رمسيس بدًّا من المجازفة بنفسه، فاستقل عربته ولحق به نفر قليل ممن كانوا حوله من القادة وحراسة بدنه، واستنصر ربه آمون وعاتبه عتاب المؤمن، ودعاه بدعاء الابن لأبيه، قائلًا: "ما هذا والدي آمون، هل من شأن الوالد أن يتخلى عن ولده؟ هل أتيت أمرًا دونك؟ ألم أمش وأقف تبعًا لقولك وما تعديت أمرك؟ ... ما أجل رب مصر العظيم حين يسمح للأجانب بأن يقتربوا من حماه. ما الذي غير نفسك آمون؟ وما قيمة هؤلاء الأجانب يا آمون، وهم أشرار يكفرون بالرب ... ؟ أدعوك أبي آمون، وأنا بين أجانب كثيرين لا أعرفهم، وقد تضافرت الأقطار الأجنبية ضدي. وأصبحت وحيدًا وما من أحد حولي، تركني جنودي الكثيرون، ولم يلتفت إلي واحد من خيالتي، وناديتهم فلم يستمع واحد منهم إلى ندائي ... ".

انحط رمسيس بحرسه القليل على جماعات كثيفة من الأعداء كانوا يجاورون نهر العاصي واندفع بينهم وكاد يضيع بين عرباتهم، لولا أنه أذهلهم، باستماتته واستبساله. وفجأة أتاه عون ربه، ولاحت له فرق نعرونا أو فرق الفتوة التي تركها على شاطئ آمور، فعبرت النهر الكبير ولحقت به، وانصب أفرادها على جماعة من الحيثيين انشغلوا بنهب المعسكر المصري وشتتوهم، فظنهم الأعداء بداية جيش كبير وتخاذلوا أمامهم. وهنا اشتدت عزيمة رمسيس وشدد هجومه، فلم يجد أعداؤه أمامهم غير النهر فألقوا أنفسهم إليه وغرق بعضهم فيه، وكان منهم أمير حلب، فانتشله أتباعه قبل غرقه وصورتهم المصادر المصرية يعلقونه من قدميه ويجعلون رأسه إلى أسفل حتى يفرغ من فمه ما ابتلعه من الماء، وظلت هذه اللحظات مثار فخر كبير ردده رمسيس مرارًا وأرجع النصر فيه إلى ربه وإلى نفسه.

وتتابعت جيوش رمسيس نحوه فأنبهم على تباطئهم عليه، وعاتب ضباطه بحديث لاذع، حاول أن يستفزهم به إلى حسن البلاء، وتعمد أن يذكرهم به بما وفره لهم في مصر من مآثر وحسن معاملة، وكيف قربهم إليه وأحبهم وكاد ينسى أنه السيد الآمر بينهم، وقال لهم:

<<  <   >  >>