ولا شك في أن هذه كلها أسبابًا وجيهة، ولكن ينبغي أن يلحظ إلى جانبها أن مصر وإن لم تحقق توسعًا خارجيًّا يذكر في عصر الأسرة الحادية والعشرين إلا أنها حافظت خلاله على حدودها الخاصة، كما حافظت على استقلالها دون شائبة تشوبه، وظل حكمها الأعلى في أيد مصرية قومية سواء أكان ذلك في بر رعمسسو أم في طيبة، وكل ذلك مما يفرق بين أوضاع هذا العصر وصورته العامة وبين أوضاع أخرى أكثر سوءًا منها شهدتها العصور التالية لعصر الأسرة الحادية والعشرين واستوجبت من أجلها أن تسلك في العصور المتأخرة، المتأخرة من حيث الزمن، والمتأخرة ضمنًا من حيث الحضارة، ومن حيث العناصر الدخيلة التي أثرت في حياتها.
وعلى أية حال فقد أدت سياسة المسالمة واقتسام المغانم في عصر الأسرة الحادية والعشرين بين البيتين الكبيرين في بر رعمسسو وطيبة، إلى الإبقاء على نظام الحكم الثنائي مائة واثنتين وأربعين سنة اتسمت بالفتور وبالسياسة الانطوائية في مجملها، وتأثرت في ذلك بعوامل داخلية وخارجية تمثلت في أن مصر بعد أن قطعت نحو خمسة قرون في يقظة شبه متصلة خلال الدولة الحديثة أرهقت وأسنت ووقعت في استرخاء طويل، وأن مشاركة كبار كهنة آمون في مسئوليات الدولة قد خدرت الناس باسم الدين، وأن مصر لم تتعرض لهزات خارجية عنيفة تجبرها على الحركة. فالمناطق الجنوبية منها كانت قد اصطبغت بالحضارة المصرية المهذبة وربطت مصائرها بمصائرها، وبلاد الشرق الأدنى كانت في شغل شاغل بمشكلاتها الإقليمية بعد أن استقرت شعوب البحر في مواطنها الجديدة، وبعد أن انشغلت كل دولة ودويلة في الهلال الخصيب بمحاولة إثبات كيانها على حساب جيرانها، فانشغل الآشوريون مع الآراميين في نزاع طويل، وشهد جنوب الشام منافسة طوائف العبرانيين بعضهم لبعض على الحكم وزعامة الدين، فضلًا عن حروبهم المتقطعة مع دويلات الكنعانيين والآرميين والفلسطينيين، ثم نجاح داود في تأسيس مملكته على حساب بعض جيرانها. أسلفنا أن العصر وفر لمصر استقرارًا مديدًا، ولكنه لم يكن استقرارًا من النوع الذي عرفته مصر في عصور قوتها وإنما كان استقرارًا فاترًا، لم يخل من خصومات بين الحكام، وانقسامات طائفية، ومؤامرات من الجماعات المهاجرة التي استوطنت في أقاليم الحدود الغربية١، وهذه سوف تصبح فيما بعد شر البلية.
وليس من المستبعد أن يكون تاريخ عصر الأسرة الحادية والعشرين في مصر مغبونًا بمحض المصادفة، نتيجة لقلة ما كشف من آثاره الصعيدية حتى الآن، ونتيجة لتحلل أغلب آثاره في الدلتا بفعل رطوبة أرضها وكثافة طميها وكثرة فروعها المائية واتساع مناقعها القديمة. وذلك بحيث لا يكاد التاريخ يعرف من نشاط هذه الأسرة في الحقل الداخلي غير استمرار الاهتمام بعمائر الإله آمون رع وبقية الأرباب الكبار، وذلك على الرغم من قلة إمكانيات عصرها قلة نسبية. ثم تغليب طابع الدين على روح العصر وسياسة الحكم فيه. وكان من صور هذا التغليب أن جعل الحكام لاستخارة الإله آمون ووحيه نصيبًا كبيرًا في حل