للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ففتح مغاليق قصره للمثالين والرسامين، فمثلوه في بشريته الخالصة وصوره هو وأسرته في حياتهم العادية، حين فرحهم وحزنهم، وعبثهم وجدهم، وتوهم أنصار الدعوة أن الأمور قد صفت لهم، وتمنوا لفرعونهم ومعلمهم أن يظل بينهم وفي عاصمتهم "حتى يسود البجع، ويبيض الغراب، وتتحرك الجبال، وينساب الماء إلى حيث ينبع"١.

وعلى الرغم من ذلك كله لم يطل الأمد بدعوة التوحيد، ولم يتهيأ لها من كثرة الأتباع ما كان يرجى لمثلها، ولم ينته الأجل بصاحبها حتى كان قد رأى عوامل التحلل والفشل تدب فيها من حيث ظن الخير ومن حيث لم يحتسب. وتمثلت هذه العوامل فيما قدمنا به عنها حين حديثنا عن الجوانب السياسية في عهده، ومجملها: عدم خروجه بنفسه للترويج لدعوته في أمهات العواصم داخل مصر وخارجها، وتقبله إسراف أنصاره في تمجيده حتى أعلنوه ابنًا للإله وأوشكوا أن يؤلهوه وأن ينشغلوا بشخصه عن ديانته، وأن دعوته لم تأت بجديد يجذب العامة إليها في حياتهم الاقتصادية أو الطبقية، وأن عقائد التعدد كانت قد تغلغلت في عادات الناس بحيث يصعب انتزاعها من نفوسهم بسهولة، وأن سمعة آمون القديمة ونفوذ من بقي من كبار كهنته كلاهما لم تخمد جذوته على الرغم من الرماد المؤقت الذي غطاها، وأن الشرق القديم الذي أمل آخناتون أن يجتذبه إليه بدعوته إلى عالمية الدين وإلى روح المسالمة والإخاء، كان في شغل شاغل عنه بمشاكله وبمن تنازعوا أموره من الأموريين والكنعانيين والأراميين والعابيرو والخابيرو، وبمن احتربوا عليه من الميتانيين والحيثيين. بل إن مشاكل أسرة آخناتون نفسها واتجاهات أمه وزوجته لم تكفل له الهدوء كاملًا، ولم يكن له ولد يرثه على العرش والدعوة، وإنما أخوان صغيران، اتجه أحدهما وهو "سمنخ كارع" إلى مهادنة كهنة آمون في حياة أخيه، وسلم الآخر وهو توت عنخ آتون ببأس خصومه والأمر الواقع بعد وفاة أخيه، فارتد عن دين آتون، وعاد إلى طيبة مقر آمون، وولي عرشها باسم "توت عنخ آمون" وناصر دينها وعمر معابد أربابها ورباتها.

وسلكت نفحة الوحدانية بعد ذلك مسالك أخرى تحاشت فيها نقمة أنصار التعدد فضمنت بقاءها ولو بين القلة من خاصة أهل الفكر في مجتمعها، مما نتناول تفصيله في بحث آخر٢.


١ Sandman, Op. Cit., ٩; Erman, Op. Cit., ٣٩٣.
٢ راجع المؤلف: ديانة مصر القديمة - القاهرة ١٩٨٤.

<<  <   >  >>