قصيرة، وعندما اختلطت هذه الظاهرة بأحاسيسهم الدينية لم يردوها إلى جفاف الصحراء وحده، ولا إلى دور الرمال في امتصاص رطوبة الجسد وحده، وإنما ردوها أساسًا إلى قدرة ربانية حانية، وقدروا أنهم إذا استرضوا صاحب هذه القدرة وقدسوه، زاد في رعايته لجثثهم وحفظها سليمة لأطول مدة ممكنة. وقد حدث بالفعل أن المعبود الذي تخيلوه ربًّا للحواف الصحراوية وسموه "إنبو""أو أنوبيس في الإغريقية"، كان هو نفس المعبود الذي تخيلوه راعيًا لجثث الموتى وقادرًا على حفظها وحاميًا للجبانات. وقد انتشر الإيمان به من طائفة إلى أخرى حتى أصبح الجميع يتوجهون بدعواتهم الأخروية إليه. واعتبروه ربًّا للتحنيط بارعًا فيه، ورمزوا إليه بهيئة ابن آوى، وهو رمز يصعب تعليل اختياره، مع شرور بنات آوى في الجبانات والصحراوات، إلا بما قدمنا به وهو الاعتقاد العكسي بأنه لن يستطيع أن يخبت شرة هذه الحيوانات إلا من خلقها وارتضى لها هيئتها وجعلها آية ظاهرة لقدرته، بعد أن يترضاه الناس ويحسنوا الظن به فيغلبوا قدرة الخير فيه على قدرة الشر.
ولم يكن نهر النيل وما يترتب عليه في دنيا المصريين بمعزل عن الإيحاء إليهم بإمكان تجدد الحياة والبعث وهم يرون فيضانه يتجدد كل عام في موسم لا يخلفه، فيخصب التربة، وينبت البذرة، ويدفع دورة الحياة الزراعية دائمًا دفعات جديدة، ولم يتوهموا هذه المظاهر تحدث تلقائيًّا من غير علة أو غاية، وإنما آمنوا معها برب كريم يدفع الفيضان من باطن الأرض، ويدفع النبات من الحب المدفون في التربة، ويحيي الحقول الجافة بعد الموات كلما مسها بفيضه ورحمته. ومع طول التدبر ونمو التدين قدروا أن من يتعهد طبيعتهم بالحياة المتجددة ويدفع عنها مواتها، قادر من غير شك على أن يتعهد أهلها بالحياة بعد وفاتهم، طالما أحبهم وأحبوه، وطالما تقربوا إليه وقدسوه. وقد حدث بالفعل أن المعبود الذي تخيله نفر منهم ربًّا للفيضان والخصب والزرع، وقدسوه باسم أوزير "أو أوزيريس كما دعاه الإغريق" كان هو نفس المعبود الذي نسبوا إليه ربوبية البعث والآخرة، وجعلوا مملكته تحت الأرض، وامتد تقديسهم له في طول البلاد وعرضها، وأحاطوه بأساطير وتخيلات عدة. "وهو غير إله النيل جعبي".
وكما استمد المصريون أملهم من أحوال الأرض وأربابها، استمدوا كذلك من السماء وأكبر أربابها حين لاحظوا ما لاحظته أغلب الشعوب القديمة، من أثر الشمس في دورة الحياة اليومية، وارتباط شروقها بيقظة الكائنات بعد النوم، والنوم هو الموت الأصغر كما يقولون، وبالحركة بعد الخمول، والرؤية بعد قلة الرؤية، فلم يردوا ذلك إلى عملية آلية لا روح فيها ولا هدف لها، وإنما ردوه إلى رب قادر اتخذ الشمس آيته الكبرى لنفع الأحياء في الدنيا، وتوهموا في هذا الرب "رع" وفي علل شروق شمسه وغروبها ما سبق لنا تفصيله في عقائد التأليه، ثم قدروا أن من يسير الشمس لنفعهم في الدنيا قادر على أن يوجهها لنفعهم في الآخرة، بعد أن تتجه إلى الأفق الغربي حيث توجد أغلب مدافنهم، فتنزل فيه إلى ما تحت الأرض وتضيء ظلمة القبور وتنير مسالك العالم السلفي، وتخيلوا للرب من أجل هاتين الغايتين، مركبين "سبق التنويه بهما"، مركبًا يعبر بها سماء الأحياء في النهار، وهي معنجة، ومركبًا يعبر بها سماء الموتى في الليل وهي "مسكتة"، وله في هذه الأخيرة مسار معلوم تحدثت عنه كتب الموتى في كل ساعة من ساعات الليل الاثنتي عشرة.