وعد الثعبان فأقلبت السفينة وتعرف الملاح على من فيها ونزل إليهم مزودًا بكميات هائلة من المر والتوابل وذيول الزراف والصموغ والبخور وأنياب العاج والفهود والنسانيس ثم فارق الجزيرة بعد أن علم من سيدها أنها سوف تزول من الوجود ويبتلعها الموج، وعاد الرجل إلى بلده بعد شهرين يملؤه الأمل بما وعده الثعبان به من سعادته في داره ولقائه لأطفاله ثم وفاته في وطنه.
لا يزل تحديد جانب الحقيقة وجانب الخيال من هذه القصة موضعًا لجدل طويل، وإن ذهب الظن إلى أن مغامرة الملاح فيها كانت قرب جزيرة الزبرجد في البحر الأحمر. وعلى أية حال فإنما يعنينا من القصة غلبة روح التفاؤل فيه وحرص كاتبها أو راويها على أن يفترض لكل مصيبة ما هو أشد منها، ويفترض لكل مصيبة مخرجًا منها. وأملت هذه الروح على الملاح صاحب المغامرة على أن يشجع أمير سفينته الذي تخوف غضب فرعونه بقوله:"استمع إلي أيها النبيل، "وثق أني" رجل بريء من المبالغة. اغتسل وضع الماء على أناملك "حتى تهدأ أطرافك"، وأجب إذا سئلت، وتحدث إلى الملك وذهنك معك، أجب دون تردد، فمنطق الرجل يحميه وحديثه يكفل له ما يصون به وجهه، وتصرف بما يمليه "عليك" عقلك".
سنوهي:
صورت قصته مغامرات البر١، وقد أسلفنا عنها "ص١٨٥" أنها قصة رجل من بلاط أمنمحات الأول ومن المتصلين بأجنحة ابنته وزوجة ولي عهده، وأنه كان قد صحب ولي العهد سنوسرت في تجريدة إلى المناطق الليبية الشمالية، وسمع خلال عودته معه بنبإ وفاة أمنمحات، كما سمع لغطًا فهم منه وجود أخذ ورد بين الأمراء، فخشي فتنة على العرش في العاصمة يعز عليه أن يلتزم الجانب الصالح خلالها، فآثر البعد بنفسه واستخفى من الجيش واعتزله، وتخطى الحدود الشمالية الشرقية وحيدًا، ولقي في طريقه ووحدته مشقات طويلة، وأسلمته أرض إلى أرض على حد قوله، حتى بلغ رثنو العليا، وهي منطقة واسعة وسط سوريا أو شرق لبنان، وطالت إقامته فيها، وأقدم على مغامرات كثيرة، ولكن لم يفارقه الحنين إلى وطنه، وتناقلت الرسل أخباره ودعواته وأمانيه، حتى وصلت أنباؤه إلى الفرعون سنوسرت فرق لحاله وعفا عنه وأرسل يستدعيه، ولما عاد إلى وطنه سجل قصته نثرًا شائقًا. وقد ذكرنا الدلالات التاريخية لهذه القصة في سياق حديثنا عن سياسة عصره، ونكتفي هنا بملامحها الأدبية، دون ضرورة إلى سرد تفاصيلها الطويلة.؟ فهي من حيث الشكل قصة واقعية لتجربة شخصية حدثت في زمان ومكان، ولها بداية ونهاية، وقد تضمنت في سياقها معلومات بسيطة مشوقة عن بلاد الشام وأهلها، وتضمنت من شعر المدائح والأمثال الجارية ومن صيغ التراسل ولباقة الاستعطاف ورقة الاعتذار ما كان المعلمون والطلبة المصريون يلذ لهم الاستشهاد به وترصيع كتابتهم به. ثم هي من الناحية الفنية قد أبدعت تصوير مشاعر الإيمان ومشاعر الخوف، ومشاعر المفاخرة بالانتصار، والتغلب على المشاق، وعاطفة الحنين إلى الوطن وتقديس الدفن تحت ترابه.
١ Gardiner, Notes On The Story Of Sinuhe, ١٩١٦; A. M. Blackman, Middle Egyptian Stories, ١٩٣٢, ١ F.; Wilson, Op. Cit., ١٨ F.