ووصفه بما يحب أمثاله أن يوصفوا به، وكان من قوله له:"إذا كنت حقًّا أبًا لليتيم، وزوجًا للأرامل، وأخًا للمنبوذة، ورداء لمن لا أم له، فشجعني على أن أنشر سمعتك في هذه الأرض بما يتفق مع القانون الصحيح، وعساك تكون حاكمًا بريئًا من الجشع، ونبيلًا منزهًا عن الدنية، تزهق الباطل وتحق الحق وتلبي نداءه. وهأنذا أقول وأنت تسمع. أقم العدل أمدحك ويمدحك المادحون - أزل كربي واحمني ... ".
وفعل استعطاف القروي فعله لدى ناظر الخاصة أو على الأصح فعل مديحه فعله لديه، فأعجب به وأسرع إلى فرعونه وهو يقول:"مولاي وجدت واحدًا من أولئك القرويين جيد الكلم يتحدث بالصواب، نُهب متاعه وأتاني يتظلم إليَّ"، وقص قصته عليه، فرد الفرعون عليه بقوله:"أستحلفك" بحق ما تحب أن تراني معافى، أن تؤخره ههنا، ولا تعقب على شيء يقوله، عساه يواصل الحديث، ثم يؤتى إلينا بحديثه مكتوبًا فنسمعه، بشرط أن تتكفل برزق زوجته وعياله، فالقروي من هؤلاء القرويين يأتينا عادة بعد إملاق، وعليك كذلك أن تتكفل بمعاشه "طيلة بقائه هنا" بشرط أن تصرف له "رزقه" دون أن تشعره بأنك أنت معطيه".
وهكذا صور الشق الأول من القصة أكثر من جانب من جوانب الحياة في عصرها، فصور لؤم بعض الموظفين وسوء استغلالهم لسلطتهم وتستر بعضهم على بعض، ولكنه لم يأب أن يصور إلى جانبهم موظفين آخرين يتقبلون الشكاية والمظالم ويودون إزالة أسبابها، ولم يأب أن يصور فرعونًا يستعذب فصاحة قروي من رعاياه ويتمنى أن يستزيد منها ثم يأمر بالإحسان إليه في عاصمته دون أن يعرف من هو المحسن عليه، ودون أن يشعر بفضل أحد عليه، فضلًا عن الإحسان إلى أسرته في قريتها والتكفل برزقها.
وعمل ناظر الخاصة بتوجيهات فرعونه، فتغافل عن الرد على خون إنبو، وظن هذا أنه أهمله فتحول من الاستعطاف إلى الشكاية ثم إلى الشراسة، وتحول من لين الحديث إلى العنف والنقد الصريح، وتوجه إلى رنس بثمان شكايات متتابعة بعد استعطافه الأول، لم يسلم حين تقديمها من الأذى وضرب الحجاب وإهانة الحراس، ولكنه لم يتخل عن عناده، واستمر يصر على إسماع صوته للحاكم ولو ناله الضرب والأذى، وعمل على أن يصور في هذه الشكايات مبادئ العدالة الاجتماعية والسياسية والقانونية التي كان يطمع فيها المفكرون في عصره.
تصور خون إنبو أن الحاكم يشبه دفة السفينة التي تحدد مسيرتها، ويشبه السند الذي يعتمد الناس عليه، ويشبه خيط الميزان في دق تعبيره عن وزن الأمور، فقال لناظر الخاصة وهو يشكوه إلى نفسه:
"أيها الدفة لا تنحرف، ويأيها السند لا تميل، ويأيها الخيط لا تتذبذب ... "
"لقد انفلت العدل من تحتك وأُقصي عن موضعه، والموظفون يشاغبون، والموعظة الحسنة أهملت، وها هم القضاة يتخاطفون ما سلب مني .. ! ".
وقال في تشبيه لطيف وتجسيم للصورة: "ها أنت رئيس وبيدك ميزان، إذا اختل الميزان فأنت مختل. ولسانك هو لسان الصغير، وقلبك صنجته، وشفتاك قبه، فإذا سترت وجهك عمن يطفف، فمن يرفع العار؟ ".