للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي إنتاجه الخاص القليل، استخدم الأدب الكاسي أسلوبًا يختلف عن لغة الحديث في عصره، استعاره الأدباء من لغة العصر البابلي الأول، وضمنوه كلمات سامية ظهرت قبله أيضًا١.

لأمجدن رب الحكمة:

عبر الأدب الكاسي عن حياة القلق والمحن التي عاشها أهله في نهاية عصرهم وما تلاه، بتوجعات ومنظومات غلبت عليها نغمة الشك والحزن، وإن انتهت في أغلب أحوالها بالخضوع للواقع، والتسليم بحكمة الرب فيما يبتلى به عباده من سراء ومن ضراء. ولم يكن هذا الاتجاه جديدًا تمامًا على آداب بلاد النهرين، فقد خرجت بمثله عهود الأزمات حين انهيار دولة أور، وخلال عهود القلق التي انتهى بها عصر إسين - لارسا، ولكنه أصبح أظهر وأشد مررة في العصر الكاسي.

ومما يستشهد به في هذا السبيل، منظومة طويلة لسرى لاقى في حياته ما لاقاه أيوب في عصره، نعمة قصيرة وضراء طويلة، ثم أبل أخيرا بعد أن عز عليه الدواء. وأكد الرجل في توجعاته ما يعني أن المؤمن مصاب وأن القدر إذا انحط بكلكله على إنسان حطمه، أو على حد قوله عن ربه "ثقلت يده عليَّ فلم احتملها". ولم تحتفظ مقدمة منظومته بعنوانها، ولكن يفهم مما بقي منها أنها اشتهرت باسم "لود - لول بل - نميقي" وبما يعني "لأمجدن رب الحكمة"٢.

وصور الرجل في بدايتها مكانته الأولى حين كان ذا لقب وجاه وأسرة. مزارع وأتباع، وتحدث عن تقواه إزاء الأرباب وإخلاصه لملكه، وحسن معاملته لقومه، ثم صور كيف انقلب ذلك كله إلى عكسه، فذهب الجاه وتمرد الأتباع وتنكر الأصدقاء ونضبت العافية وكلح وجه الدنيا وادلهم، فعاش عيشة السوائم، وهجره ربه ومكن الناس منه فحطموه وسحقوه دون ذنب يعرفه. وقال وهو يعترف بعجزه عن فهم حكمة الغيب وتصاريف القدر: "هديت بلدي إلى شعائر الرب، ودعوت قومي إلى تمجيد الربة، ومجت الملك كما مجدت الرب، ووجهت الناس إلى إجلال القصر، وظننت أن هذا يرضي الإله، ولكن يبدو أن ما يظنه المرء صوابًا قد يكون مسيئًا لربه، وما يتراءى للإنسان قبحه قد يكون حسنًا عند ربه. فمن ذا الذي يدرك إرادة أرباب السماء؟ ومن ذا الذي يدرك تدبير آلهة الأعماق؟ وأين عرف الناس سبيل الرب حقًّا؟ إن من عاش الأمس مات اليوم وفي برهة هلك وفجأة انسحق. يهلل الناس ويفرحون حينًا، وفجأة ينوحون كالنادبات. تتغير أحوالهم ما بين فتحة ساق وانطباقتها؛ يجوعون فيغدون كأنهم جثث هامدة، ويشبعون فيزاحمون أربابهم. في السراء يتطاولون إلى السماء، وفي الضراء يهوون إلى الجحيم. لقد عجزت "وأيم الحق" عن كنه هذه الأمور وما أدركت لها مغزى"٣.


١ Op. Cit., ١٤.
٢ R.H. Pfeiffer, Anet, ٤٣٤ F.; R.D. Biggs, Ibid., ١٩٦٩, ٥٩٦-٦٠٠; And See, Lambert, Op. Cit., ٢١ F.
٣ Tabiet Ii, ٢٩-٤٨.
وقارن هذا بتوجع رجل سومري قديم أمام ربه: Anet, ١٩٦٩, ٥٨٩-٥٩١.

<<  <   >  >>