للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

للشرق الأدنى متشابهة المظاهرة ومتشابهة النتائج إلى حد واضح. وكانت ولا تزال تميل إلى الجفاف في معظم أحوالها، فيما خلا مناطق قليلة اتصفت بمناخها الخاص على سواحل البحر المتوسط وإلى حد ما على سواحل البحر الأحمر وبحر العرب أو المحيط الهندي. وظلت معابر الشرق الأدنى البرية التي استخدمها أهله القدماء في تنقلاتهم واتصالاتهم مفتوحة مطروقة في غالب الأحيان إلى حيثما تطلبت المصالح الإقليمية زيادة تحصيناتها وتشديد الرقابة عليها في فترات الغزوات الخارجية والهجرات العنيفة. وترتب على هذين العاملين أن ظلت أغلب الجماعات ذات الأثر في عمران الشرق الأدنى وتحضره من السلالات التي عرفت اصطلاحا باسم السلالات السامية الحامية، وقد تحدرت في بداية نشأتها من عائلة جنسية واحدة ذات أرومة لغوية متقاربة، ثم انضافت إلى هوامشها من حين إلى آخر هجرات شعوبية دخيلة وفدت من أواسط آسيا ومرتفعاتها ومن جزر البحر المتوسط، ولكنها وفدت في أغلب حالاتها قليلة الأعداد وعلى فترات متباعدة، وذلك مما شجع اللبانة السامية الحامية على أن تتشربها وأن تصبغها بصبغاتها ثم تذيبها تدريجيًّا في كيانها الجنسي واللغوي والفكري الكبير وقد نتج عن ذلك أن استمرت مظاهر التشابه في لغات شرقنا الأدنى القديم واتجاهات عقائد شعوبه وأساطيرهم أكثر وأوضح من مظاهر الاختلافات الإقليمية بينها. وقد استشهدنا على ذلك بنماذج عدة تخيرناها من صور التقارب اللغوي بين المصريين القدماء وبين جيرانهم من أصحاب اللغات السامية والحامية في كتابنا السابق عن "حضارة مصر القديمة وآثارها"، ولهذا نحيل القارئ إلى ما ذكرناه فيه عنها. وحسب هذا الفصل من صورة ذلك التقارب أنه أمكن التعرف على ما يقرب من مائتي كلمة مصرية قديمة لا تزال أمثالها حية في مفردات اللغة العربية الفصحى، وهي مجرد قلة من كثرة اندثر بعضها، وانزوى بعضها الآخر في بطون المعاجم نتيجة للتطور الزمني والحضاري لمفردات الكتابة والحديث. ولعل الأكثر دلالة على صلة الرحم القديمة هو وجود صلات جوهرية بين قواعد النحو في كل من اللغة المصرية القديمة واللغة العربية بخاصة، على الرغم من اختلاف صور الكتابة بينهما، ومن ذلك وجود حروف الحاء والعين والقاف في اللغة المصرية القديمة، وشيوع المصدر الثلاثي بين أفعالها، وغلبة الفعل المعتل الآخر فيها، وما أخذت به من سبق الفعل للفاعل، وإلحاق الصفة بالموصوف، واستخدام صيغة المثنى، وإضافة تاء التأنيث في نهاية بعض أسمائها وصفاتها المؤنثة، واستخدام ياء النسبة، وتمييز البعض من الكل، واستخدام كاف المخاطب وميم المكان ونون الجمع، مثلها في ذلك مثل اللغة العربية، وذلك فضلًا عن كتابة الحروف الساكنة وشبه اللينة في كلماتها دون حروف الحركة، وتشابه عدد من ضمائرها مع ضمائر بعض لهجات اليمن ولهجات العراق ولهجات جنوب الشام في العصور القديمة، مع اختلاف في طريقة النطق بين كل واحدة والأخرى، ولا شك في أن التقارب في قواعد النحو بين اللغات لا يتأتى إلى عن طريق وحدة أصولها القديمة.

غير أنه كان من البديهي أن يترتب على شدة انفساح رقعة الشرق الأدنى القديم، وتباعد المواقع الجغرافية لأطرافه، وتباين التكوينات التضاريسية لأجزائه، بعض التنوع الإقليمي في الأوضاع المعيشية والاجتماعية والسياسية لشعوبه ومجتمعاته. وتتضح بعض صور هذا التنوع فيما ستتناوله الصفحات التالية من اختلاف ظروف البيئات النهرية والصحراوية والساحلية، ومدى توافر فرص الاختلاط والاتصالات، على تكوين القوميات القديمة وخصائص الشعوب هنا وهناك.

<<  <   >  >>