عن القوة، وصورة الساقين عن الحركة، وصورة الأذن عن السمع، والعين عن الرؤية، وهلم جرًّا". ثم جمعوا إليها علامات تصورية اصطلاحية تؤدي غرض المقاطع الصوتية، أي تعبر كل علامة منها عن مقطع صوتي ذي حرفين أو ثلاثة حروف، يمكن استخدامه في التعبير عن الأوصاف والمعنويات حين يشترك لفظه مع كلمة معنوية تماثله في النطق، مع إضافة رمز أو مخصص يحدد معناها في سياق الكتابة. واستمروا يزيدون أعداد هذه وتلك وأنواعها لتفي بمطالب كتابتهم. ثم أصافوا إليهما حروفًا هجائية يدل كل شكل منها على حرف واحد، وقد بلغت عدتها عند اكتمالها أربعة وعشرين حرفًا، وكان ابتداعهم لها هو الخطوة الحاسمة في اكتمال كتابتهم وامتيازها عن غيرها، وتصادف أن بدأت معها عصورها التاريخية. وقد اصطلحوا على الكتابة منذ ذلك الحين بخطين دفعتهم روح المحافظة على أن يجمعوا فيهما صور الأشياء والمقاطع الصوتية التصورية والحروف الهجائية والرموز التخصيصية في آن واحد. وظل أول الخطين يغلب عليه طابع التصوير المتقن وروح الزخرف، وقد نقشوا به نصوصهم على سطوح اللوحات الحجرية وما يقوم مقامها مما يصلح للنقش عليه كالخشب والأبنوس والعاج، وعلى جدران المعابد والمقابر والتوابيت، كما دونوا به بعض النصوص الدينية على صفحات البردي. ونشأ الخط الثاني سريع الأداء يعتمد على الصور المختصرة التي تطور بعضها مع الزمن إلى أشكال خطية، وقد سجلوا به الشئون الحكومية ودونوا به الرسائل والآداب والعقود الشخصية وبقية شئون الحياة اليومية. ولم يزد الفارق بين الخطين كثيرًا عن الفارق الحالي بين خطوط اللافتات والعناوين وبين خط الرقعة اليدوي السريع. وقد عبر المصريين عن الخطين بكلمة "سش" بمعنى الكتابة، وإن ميزوا أولهما فأدمجوه فيما أطلقوا عليه تعبير "مدونثر" بمعنى أقوال الرب أو الأقوال المقدسة؛ إشارة إلى قداسة أصله وإكبارًا لأصحاب الفضل الأول في اختراعه. وعندما وفد الإغريق إلى مصر أطلقوا على الخط الأول اسم الخط الهيروغليفي بمعنى الخط المقدس، وأطلقوا على الخط الثاني اسم الخط الهيراطي١ بمعنى الخط الكهنوتي، "فضلًا عن خط ثالث استحدثه المصريون في أواخر عصورهم القديمة خلال القرن الثامن أو السابع ق. م وجعلوه أكثر إيحازًا في تخطيطاته وصوره من خطهم الثاني، وأطلق الإغريق عليه اسم الخط الديموطي بمعنى الخط العام أو كتابة الجمهور". وأصبحت المسميات الإغريقية لخطوط الكتابة المصرية هي الشائعة بين الباحثين، ثم خط رابع استخدمه المصريون بعد اعتناقهم المسيحية، واستعاروا أشكال أغلب حروفه من صور الحروف اليونانية، وهو الخط القبطي.
والواقع أنه مهما يبدو للعين المعاصرة من غرابة صور الكتابة المصرية القديمة التي بدأها أصحابها منذ نيف وخمسة آلاف عام، وسبقوا بها أمم العالم المتحضر القديم، فإن هذه الغرابة يمكن أن تقل إذا قدرنا أن الحروف التي نكتبها اليوم، عربية كانت أم لاتينية، ليست غير تطورات أخيرة لصور قديمة عرف علماء اللغات بعضها وعزت عليهم معرفة أصول بعضها الآخر، وحسبنا منها حرف F وحرف G في الكتابة الإفرنجية السريعة، والحرف الأول من الأبجدية العربية الذي هو عبارة عن كلمة من ثلاثة حروف أو أربعة وهي
١ يبدو أن تعريب كلمتي Hieratic And Demotic بكلمتي هيراطي وديموطي، أصح من تعريبهما الشائع بكلمتي هيراطيقي وديموطيقي، حيث تكفي ياء النسبة العربية للتعبير عن مقطع النسبة Ic في التسمية الإغريقية أو الأوروبية.