للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما خلص من تلك الحبالة ونجا، وأنار من سلامته ما كان دجا، احتال في إعفاء ماله، واستيفاء آماله، فأظهر الوفاء للأمير أبي بكر بالرثاء له والتابين، دهيه في ذلك واضح مستبين، فإنه وصل بهذه النزعة من الحماية إلى حرم، وحصل في ذمة ذلك الكرم، واشتمل بالرعي، وأمن من كل سعي، فاقتنى قينات ولقنهن الأعاريض، من القريض، وركّب عليها ألحاناً أشجى من النوح، ولطف بها إلى إشادة الإعلان باللوعة والبوح، فسلك بها أبدع مسلك، واطلعها نيرات ما لها غير القلوب من فلك، فمن ذلك قوله: [منسرح]

إن غراباً جرى ببينهم ... جاوبه بالثنية الصردُ

صاروا فها أنت بعدهم جسد ... قد فارق الروح ذلك الجسدُ

واكتتموا صبحة ببينهم ... أليس لله بئس ما اعتمدوا

وكقوله: [طويل]

سلام والمام ووسمي مزنة ... على الجدث النائي الذي لا أزوره

أحقاً أبو بكر تقضى فلا يُرى ... ترد جماهير الوفود ستورهُ

لئن أنست تلك القبور بلحك ... لقد أوحشت أقطاره وقصوره

ومن قلة عقله ونزارته، أنه في مدة وزارته، سفر بين الأمير أبي بكر وبين عماد الدولة ابن هود بعد سعايات عليه أسلفها، وذخائر كانت له على يديه أتلفها، فوافاه لأوغر ما كان عليه صدره، وأصغر ما كان عنك قدره، فآل به ذلك الانتقال: إلى الاعتقال: فأقام فيه شهوراً يغازله الحمام بمقلة شوهاء، وتنازله الأوهام بفطرته الورهاء، وفي ذلك يقول بخاطب ذا الوزارتين أبا جعفر يزيد بن مجاهد: [وافر]

لعلعك يا يزيد علمت حالي ... فتعلم أي خطب قد لقيتُ

وإني إن بقيت بمثل ما بي ... فمن عجب الليالي أن بقيتُ

يقول الشامتون شفاء بخت ... لعمر الشامتين لقد شقيتُ

أعندهم الأمان من الليالي ... وسالمهم بها الزمن المقيتُ

وما يدرون أنهم سيسقوا ... على كرة بكأس قد سُقيتُ

وعزم عماد الدولة يوماً على قتله، وألزم المرقبين به التحيل في ختله فنمي إليه ذلك الأمر الوعر، وارتمى في لجج الباس والذعر، فقال: [طويل]

أقول لنفسي حين قابلها الردى ... فراغت فرارا منه يسرى إلى يمنى

<<  <   >  >>