أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس، مثل: حاجة الناس الفلاحة والنساجة والبناية - فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه وثياب يلبسونها ومساكن يسكنونها، فإذا لم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم، كما كان يجلب إلى الحجاز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت الثياب تجلب إليهم من اليمن ومصر والشام وأهلها كفار، وكانوا يلبسون ما نسجه الكفار ولا يغسلونه، فإذا لم يجلب إلى ناس البلد ما يكفيهم احتاجوا إلى من ينسج لهم الثياب، ولا بد لهم من طعام؛ إما مجلوب من غير بلدهم، وإما من زرع بلدهم، وهذا هو الغالب، وكذلك لا بد لهم من مساكن يسكنونها، فيحتاجون إلى البناء؛ فلهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم؛ كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم: إن هذه الصناعات فرض على الكفاية، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها كما أن الجهاد فرض على الكفاية، إلا أن يتعين فيكون فرضا على الأعيان، مثل: أن يقصد العدو بلدا، أو مثل: أن يستنفر الإمام أحدا، وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين، مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه عنه، فإن هذا فرض على الأعيان كما أخرجاه في [الصحيحين] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (١) » وكل من أراد الله به خيرا لا بد أن يفقهه في الدين، فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرا، والدين ما بعث الله به رسوله، وهو ما يجب على المرء التصديق به والعمل به، وعلى كل أحد أن يصدق محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ويطيعه فيما أمر تصديقا عاما، وطاعة عامة، ثم إذا ثبت عنه خبر، كان عليه أن يصدق به مفصلا، وإذا كان مأمورا من جهة بأمر معين
(١) صحيح البخاري العلم (٧١) ، صحيح مسلم الإمارة (١٠٣٧) ، سنن ابن ماجه المقدمة (٢٢١) ، مسند أحمد بن حنبل (٤/٩٣) ، موطأ مالك كتاب الجامع (١٦٦٧) ، سنن الدارمي المقدمة (٢٢٦) .